عملية التركيب والاستعادة:
إن عملية استعادة الوقائع هي الخطوة العملية في المنهج الأوربي، وهي عندهم تعتمد على قوة الملاحظة والتخيل عند المؤرخ، أو ما يسمونه [بالحاسة التاريخية] بحيث يعيش المؤرخ حالة من الفناء والاستغراق في الماضي ويستحضر الأحداث الماضية كأنه يعيشها الآن ويحياها بالفعل، ثم يستنبط منها المعلومات، ويصنفها ويضعها في إطار عام، ويقوم بسد الثغرات في النص، فيكمل الناقص، ويستبعد الناشز منها، بحيث تشكل مرويات الحدث بعد حالة [الحدس] هذه عصرا محددا، أو ظرفا معينا.
وهذه المرحلة هي عماد المنهج التاريخي الأوربي، -خاصة- بعد قصور المنهج في مرحلة النقد والتوثيق والتحليل، ومع ذلك فهي لا تسلم لهم أيضا لأنها مبنية على استنتاج فكري غيبي مجرد، يعتمد على مزاج المؤرخ وحدسه الذاتي، وأية نتائج تعتمد على الحدس الذاتي هي بلا ريب عرضة للمؤثرات الشخصية عند المؤرخ، والتي تتشكل من عواطف وغرائز وأفكار سابقة وموروثات ثقافية تترك آثارها بوضوح في شخصية المؤرخ، وهي بالتالي تترك بصماتها على نتائج الدراسة التي يخرج بها المؤرخ وتخرج بها من إطار النزاهة والحيدة والدقة، بل قد يلوى المؤرخ حركة التاريخ كله فيفسرها وفق أهوائه ومشاربه ومعتقداته، مثلما فعل الماركسيون في تفسيرهم


للتاريخ الإنساني، فصبغوه بصبغة المادية، وحصروه في العامل الاقتصادي وتطوراته، ومثلما فعل الفرويديون حينما صبغوا العلاقات الإنسانية بصبغة الغريزة الجنسية، وجعلوا محور النشاط الإنسان وعلاقته تتمحور في هذه الانبثاقات الجنسية بين الأفراد .. . وعلى ذلك: فالمنهج الأوربي في جملته: منهج ذاتي، يغرق في الحدس والتخيل، ونتائجه احتمالية، وهو يفتقد القواعد الموضوعية التي وضعها علماء الحديث في منهجهم التوثيقي سواء من ناحية المتن أو السند، أو من ناحية الاستنتاج العام واستنباط الأحكام، وهذا كله - فضلا- عن السبق والريادة التي حظى بها المنهج التاريخي عند علماء المسلمين، وما أسفرت عنه جهودهم في تلك القواعد الفذة التي أقامها ابن خلدون وغيره في النقد التاريخي للمرويات التاريخية.

Post a Comment

Previous Post Next Post