دراسة موجزة عن منهج تحقيق الخبر الشرعي عند علماء السنة.
إن منهج التحقيق للأخبار الشرعية، أي الروايات المنسوبة لرسول الله هو من أهم المناهج، لأن موضوعه الروايات التي تقوم عليها حياة المسلم، وتنتظم في ضوئها حركته العبادية والمعاشية؛ وتحقيق السنة وحفظها مطلب شرعي، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ السنة من التحريف ومدح من فعل ذلك بقوله: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) (1)، ودعا - صلى الله عليه وسلم - لمن حفظ سنته وبلغها فقال: ((نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع)) (2)، وحذر من الكذب عليه أو الدس في سنته فقال: ((إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبؤا مقعده من النار)) (3).
وقد حرص أصحابه الأكرمين - رضي الله عنهم- على حفظ سنته وصيانتها من أي تحريف، وكانوا يتحرون في السماع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويدققون في التحديث عنه، فكان أبو بكر وعمر يطلبان
_____
(1) رواه ابن عدي والدارقطني وأبو نعيم، وقال العلائى: وتعدد طرقه يقضي بحسنه (راجع قواعد التحديث.
(2) رواه ابن ماجه حديث رقم 230، ورواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
(3) رواه مسلم بشرح النووي ج 1 ص 57 طبعة الشعب.


شاهدين على الحديث في كثير من الأحكام، وكان علي بن أبي طالب يستحلف من يحدثه حديث لم يسمعه هو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذكر الحاكم النيسابوري: أن الصحابة كانوا أول من أسس علم الجرح والتعديل، فموازين النقد وتقويم الرجال، قديم في نشأته منذ عصر الصحابة، فقال - يرحمه الله -: ((إن الطبقة الأولى من المزكين لرواة الأخبار منهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، فإنهم قد جرحوا وعدلوا وبحثوا عن صحة الروايات وسقمها)). ويمكن أن يضم إلى ما ذكره الحاكم: ابن عباس وعائشة وغيرهما من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
وبعد عصر الصحابة، حمل التابعون وأتباع التابعين مسؤولية المحافظة على السنة، وحماية رحابها من أن يدخل إليه من ليس أهلا لحمل أمانة الرواية، فشددوا في طلب الإسناد، ومعرفة الرواة، ووضعوا مراتب للتعديل، ومراتب للتجريح، وغير ذلك من ضوابط التحقيق والتوثيق، مما جعل منهج النقد عند المحدثين، تنفرد به المكتبة الإسلامية، ولا يوجد له نضير في المنهجيات الأخرى التي تبحث في تحقيق الأخبار.
وقد وضحت معالم هذا المنهج منذ القرن الثاني الهجري، وتبرمجت على نحو متكامل، ونضجت ثماره وآتت أكلها على يد الإمامين الجليلين البخاري ومسلم، وغيرهما من أصحاب كتب السنة
_____
(1) الكاشف للذهبي تحقيق عزت عطية ص 21.


المعتمدة في القرن الثالث الهجري وتتجلى عظمة هذا المنهج وقواعده النقدية في الخطوات الآتية.
الأولى: الإسناد:
لقد ذكر الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في مقدمة صحيحه آثارا كثيرة تتحدث عن منهج الصحابة والتابعين في حماية السنة، ومطالبتهم بالإسناد بعد عصر الفتنة (أي فتنة ابن سبأ، وظهور التشيع، والدس في السنة)، ومن هذه الآثار:
(1) قول ابن سيرين: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمو لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)).
(2) قول الزهري: ((قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأك على الله، لا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة)) وقد قال ذلك حينما استمع إلى اسحق بن أبي فروة يحدث فيقول: قال رسول الله كذا، وقال رسول الله كذا بدون إسناد.
وهذا لعمري: من أهم قواعد الضبط، حيث إن الحديث بدون إسناد لا يمكن التعرف على صحته من سقمه ولا تتيسر الاستفادة منه.
(3) قول عبد الله بن المبارك: ((الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)). (1).

Post a Comment

أحدث أقدم