التنظيم المادي للمعاملة  العقابية

     يقصد بالتنظيم المادي للمعاملة العقابية مقدار ما يسمح به نظام المؤسسه العقابية من حرية للنزلاء في الاتصال بين بعضهم البعض. وتتنوع المؤسسات في ذلك إلى أربعة نظم مختلفة. فإما أن يكون نظام المؤسسة جمعي  أو مشترك Régime commun  ، يسمح فيه بالاتصال بين النزلاء في كل وقت. وإما أن يكون نظام فردي Régime cellulaire ، ويقتضي الفصل التام بين النزلاء في كل وقت ليلاً ونهاراً. وإما أن يكون نظام مختلط Régime mixte ويقتضي الجمع بين النزلاء نهاراً والفصل بينهم ليلا.  وإما أن يكون نظاماً تدريجياً progressif  Régime ، يقتضي البدء مع النزلاء بمستوي عقابي صارم والتدرج معهم نحو التخفيف شيئا فشيئا إلى حين الإفراج عنهم.

والواضح من هذه الأنواع أن النظامين الأولين – الجمعي والفردي - يقومان علي المغالاة، أما النوعين الآخرين - المختلط والتدريجي - فيقومان على الجمع بين مزايا النظامين الأولين ومحاولة تلافي عيوبها ، أي أنها أنظمة توفيقية. ولكل من هذه الأنظمة سوف نخصص مبحثاً.
النظام الجمعي Régime en commun

1-                  أولاً : مضمون النظام الجمعي :
     جوهر النظام الجمعي عدم الفصل بين المحكوم عليهم خلال مدة تنفيذ العقوبة السالبة للحرية كاملة سواء أكان ليلاً أو نهاراً ، وسواء في مكان المبيت أو العمل أو الترفية أو الطعام. ولا يغير من طبيعة النظام أن تقسم الإدارة العقابية المحكوم عليهم إلى طوائف على أساس السن والجنس. كأن تخصص الإدارة داخل المؤسسة العقابية أقسام للبالغين وأخري لصغار السن أو أن تخصص أقسام للنساء وأخري للرجال[1].

2-                  ثانياً : تقييم النظام الجمعي :
    يمتاز النظام الجمعي بعدد من المزايا منها :
*- يمتاز النظام الجمعي بكونه يتوافق مع الطبيعة البشرية التي تنزع إلي الاجتماع والاتصال بالآخرين. فالإنسان حسب الفطرة كائن اجتماعي محب للتواجد بين مجموع.
*- أن النظام الجمعي قليل النفقات إذ لا يستوجب الإكثار من الإنشاءات أو من  عدد رجال الإدارة.
*- هذا النظام يتفادى المشاكل الصحية التي قد يتعرض لها المحكوم عليه إذا ما عزل بمفردة عن بقية أقرانه , كالتوتر والاضطرابات النفسية والعقلية.
*- قد يسهم هذا النظام في تطبيق الاستفادة من وسائل الإنتاج الحديثة فيضاعف من إنتاجية المؤسسة العقابية.

بيد أن هذا النظام يعيبه الكثير من السلبيات التي نوجزها على النحو التالي :
*- فقد قيل أنه نظام يفسد أكثر مما يصلح Ce régime corrompt plus qu’il amende     , حيث يسمح هذا النظام بالاختلاط بين السجناء الصالح منهم مع الطالح المبتدئ مع العائد فتنتقل عدوي الجريمة وتتشكل العصابات الإجرامية , التي تمارس عملها الإجرامي بعد الخروج من المؤسسة. فتصبح هذه الأخيرة وكأنها معاهد لتدريس الجريمة.
*- يضاف إلي ذلك أن الجمع بين النزلاء ليلاً ونهاراً ينمي روابط الصداقة بينهم مما قد يهدد النظام الداخلي للسجن ويساعد علي تزايد حالات العصيان والإضراب سواء عن العمل أو عن الطعام.

وقد حاول البعض التأكيد علي أن هذه الانتقادات مبالغ فيها, إذ أن نظام الجمع في ذاته ليس معيباً ، بل إن جوهرة يتوافق مع الطبيعة الإنسانية. وربما ما قيل بشأنه من عيوب يعود إلى غياب أساليب التأهيل. وبالتالي يمكن تفادي عيوب هذا النظام إذا ما تم تصنيف المحكوم عليهم بحيث لا يتم الجمع إلا بين الطوائف المتقاربة في السن وفي الظروف الاجتماعية ودرجة الخطورة الإجرامية[2].
المبحث الثاني
 النظام الانفرادى (البنسلفانى)
         Régime cellulaire ou pennsylvanien
    
3-                  أولاً : مضمون النظام الانفرادي ونشأته :
     النظام العقابي الانفرادي هو علي النقيض من النظام الجمعي ، إذ يقوم هذا النظام على أساس الفصل التام بين النزلاء ليلاً ونهاراً وتنقطع الصلة بينهم بحيث يقضي كل مسجون عقوبته منفرداً في زنزانة خاصة بالسجن لمنع الاختلاط الضار بين المسجونين. وفي داخل هذه الزنزانة يمارس النزيل أنشطتة ولا يبرحها إلا حين انتهاء العقوبة.

وترجع بدايات هذا النظام إلي العهود الأولى للكنيسة المسيحية التي كانت تري أن العزلة مدعاة إلى مراجعة النفس وتطهيرها من الخطيئة. ثم عرفته سجون أخرى مدنية كسجن أمستردام في هولندا في نهايات القرن السابع عشر وسجن سان ميشيل في روما وسجن ميلانو عام 1759. ثم طبق هذا النظام في فيلادلفيا في نهاية القرن السابع عشر 1790 تحت تأثير أفكار جون هوارد John Howard  [3] وفي ولاية بنسلفانيا عام 1827. لذا يطلق أحيانا علي هذا النظام أسم النظام الفيلادلفي Régime philadelphien  أو النظام البنسلفاني .Régime pennsylvanien  

وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأ هذا النظام يلاقي قبولاً في عدد من الدول أخري. ففي فرنسا أخذ بنظام العزلة التامة L’isolement complet   عام 1840. وفي عام 1853 كان عدد السجون الانفرادية قد بلغ 49 سجناً تشتمل على 4485 زنزانة. وفي عام 1875 أنشئت الجمعية العامة للسجون  Société Général de  Prisons   بهدف التوسع في نظام السجون الانفرادية , إلا أن التكاليف المالية الباهظة التي يتطلبها تطبيق هذا النظام وقفت حائلا دون ذلك , مما أدى إلي تقلص عدد السجون الانفرادية حتى وصل العدد إلي 50 سجنا انفراديا فقط[4].

وعلي ذات المنوال سارت بلجيكا , إذ أنشئت العديد من السجون الانفرادية في لوفان Louvain عام 1860. وصدر عام 1870 قانون يقرر تطبيق النظام الانفرادي علي كافة العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة أو قصيرة المدة. واستمر الحال هكذا إلي أنه تم التخلي عن هذا النظام القاسي في 1945 بالنسبة لتنفيذ العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة.

4-                   ثانياً : تقييم النظام الانفرادي :
     إذا أردنا تقدير هذا النظام العقابي , فإننا يمكننا القول بأنه يتفادى العيوب التي قيلت بشأن النظام الجمعي والناشئة عن الخلطة الكاملة بين المحكوم عليهم. فهذا النظام الذي يقوم على العزل التام يتيح لكل نزيل أن يتأمل في جرمته ويولد لدية الرغبة في التوبة والندم.

بيد أن هذا النظام يعيبه أنه يصطدم بالطبيعة والفطرة الإنسانية التي تنحو نحو الانضمام والترابط والتجمع وتأبى العزلة والانفراد , الأمر الذي يؤدي بالمحكوم عليه – خاصة بعقوبة سالبة للحرية طويلة المدة - إلى التعرض للكثير من المشاكل والاضطرابات العصيبة والنفسية. مما قد يدفعه إلى التفكير في الانتحار أحياناً أو على أقل تقدير إلى الهرب من المؤسسة العقابية. فضلا عن ذلك فإن هذا النظام يتطلب الأخذ به تخصيص تكاليف مالية باهظة مما قد يشكل عبئاً علي الدولة . إذ يتطلب هذا النظام إنشاء عدد ضخم من الزنازين وتعيين عدد أكبر من السجانيين والحراس والمشرفين الإداريين والأخصائيين النفسيين والأطباء…الخ. كما أن هذا النظام يضعف إدارة المحكوم عليه وتجاوبه مع الإدارة العقابية مما يجعل من برامج التأهيل والتثقيف والتهذيب أمراً لا طائل من ورائه.

ولا شك أن تلك العيوب كانت وراء التراجع الذي شهده هذا النظام في كل دول العالم تقريباً ، حتى أنه لم يعد مأخوذ به إلا في بعض الأحيان كمرحلة من مراحل النظام التدريجي وإما بصدد طوائف معينة من المحكوم عليهم. من قبيل ذلك المحكوم عليهم شديدي الخطورة أو المصابين بشذوذ أو مرض نفسي وعصبي ، أو عندما يكون المحكوم عليه خاضعاً لعقوبة قصيرة المدة ويرجى ابعاده عن الوسط السيئ للمؤسسة العقابية وتجنيبه مضار الاختلاط ببقية المحكوم عليهم ، أو أن يكون المحكوم عليه من طائفة معينه , كالمحكوم عليهم في جرائم الرأي والذين يرجى عدم اشعارهم  بالمهانة باختلاطهم بالمجرمين في الجرائم العادية[5].


[1] د. محمود نجيب حسني , المرجع السابق , ص158 وما بعدها , د. أحمد عوض بلال , المرجع السابق , ص276 وما بعدها.
B. Bouloc, op. cit., p. 118 et s , R. Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 244 ; G. Levasseur, G. Stéfani et Jambu-Merlin, op. cit., p. 381.  
[2] د. أحمد شوقي أبو خطوة , المرجع السابق , ص553. في ذات المعنى ، د. محمد صبحي نجم ، الوجيز في علم الإجرام والعقاب ، ط2 ، 1991 ، ص117-118.
[3] B. Bouloc, op. cit., p. 119.
[4] B. Bouloc, op. cit., p. 120 et s.
[5] د. محمود نجيب حسني , المرجع السابق , ص164 وما بعدها , د.أحمد شوقي أبو خطوة , المرجع السابق , ص557 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان , المرجع السابق , ص382-383 ، د. محمد عيد الغريب , المرجع السابق , ص167 ، د. أحمد عوض بلال , المرجع السابق , ص280 وما بعدها ، د. فتوح الشاذلي ، علم العقاب ، 1993 ، ص221-222 ، د. فوزية عبد الستار ، المرجع السابق ، ص83 وما بعدها ، د. محمد صبحي نجم ، المرجع السابق ، ص118 وما بعدها.

Post a Comment

Previous Post Next Post