الريادة الإسلامية في تنظير المناهج وتطبيقاتها
من المعروف أن علماء المسلمين كانوا قد بدؤا البحث في المسائل العملية قبل البحث في المسائل الاعتقادية أو النظرية، ونتج عن هذا أسبقية المنهج الأصولي لدى علماء أصول الفقه قبل منهج المتكلمين في المسائل الاعتقادية.
وقد وضعت قواعد الاستدلال والاستقراء، وتبرمجت على نحو متكامل على يد الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في القرن الثاني الهجري في كتابه القيم ((الرسالة))، وقد قام المنهج الأصولي الاستدلالي على قاعدتين: الأولى: قاعدة العلية (أي: أن لكل معلول علة)، والثانية: قاعدة الاضطراد في وقوع الحوادث (أي: أن العلة الواحدة إذا وجدت تحت ظروف متشابهة أنتجت معلولا متشابها (1).
وهاتان القاعدتان هما اللتان أقام عليهما ((جون استوارت مل سنة 1873م)) قواعد منهجه الاستقرائي وحاز قصب السبق في ذلك؛ إن هذا السبق كان فقط في وضع المنهج على صورته التنظيمية المتكاملة، لكن قواعد الاستنباط والاستدلال كانت موجودة ومعروفة منذ عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - وطبقها النبي وأصحابه في الاستدلال
_____
(1) مناهج البحث لدى مفكري الإسلام للدكتور علي سامي النشار ص: 260


وأخذت عنهم بعد ذلك؛ وما أكثر الوقائع على ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفى حياة أصحابه الأكرمين. والتي منها: تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها قياسا على حرمة الجمع بين الأختين المنصوص عليها في قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء: 23] وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - العلة في ذلك القياس بقوله: ((فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)).
وإذا كان للمسلمين فضل السبق والريادة في وضع المنهج الاستدلالي وتطبيقاته في استخراج القضايا والأحكام العملية، فقد كان لهم كذلك شرف السبق والريادة في وضع المنهج التجريبي القائم على الرصد والاستقراء والتجربة الحسية، حيث كانت المناهج -في معظمها- قبل الإسلام تجنح إلى التجريدات الصورية والتأملات الذهنية المحضة، سواء تمثل ذلك في التجريدات الأفلاطونية وعالم المثل عند أفلاطون؛ أم تمثل في المنهج الصوري عند أرسطو والقائم على الحدس العقلي المجرد واستخدام القياس الشمولي القائم على الكليات الذهنية المجردة؛ أم تمثل في الإشراقات الروحية التي تبتعد عن الواقع الحسي وتجنح إلى الخيال الروحي كما في الهندوسية والبوذية وغيرهما.
وقد تعمقت، الفجوة أكثر بين الوقع ومناهج البحث نتيجة للأفكار الخاطئة وبعض الاعتقادات الدينية المنحرفة التي جعلت بين الإنسان والكون حاجزا ضخما، وصور بعضها الكون أمام الإنسان على أنه شبح مخيف، أو هو لغز لا يحل، وصوره البعض على أنه شر


محض وهو مصيدة الشيطان، ولا يمكن للإنسان دخول ملكوت الرب وتحقيق السعادة الأبدية إلا بالتخلص منه والعزوف عنه بالكلية.
وجاء الإسلام فكسر الحاجز بين الكون والإنسان، ودفع الإنسان إلى عمارته، وأمره بالنظر في الملكوت المشهود ليكتشف أسراره ويتمكن من تسخيره وفق ما أعطاه الله من عقل، وحتى يتحقق له مناط الخلافة التي أنيطت به والتي تقوم أساسا على عمارة الكون والتمكين لقيام المنهج الإلهي في الأرض، (وبدأت المسالك الإسلامية في البحث تنحو منحى عمليا يتفاعل مع الواقع، ولا يقتصر على التجريدات الذهنية، وتمثل ذلك في الاستقراء الواقعي للأشياء، والمقايسة بين الأشياء الجزئية، واستنباط القوانين العامة من الجزئيات الواقعية) (1) ونحو ذلك مما سيأتي تفصيله في أنواع القياس.
لقد كان المنهج التجريبي في حياة المسلمين بمثابة النقلة النوعية في مسالك البحث العلمي، وكان بحق من أجلى الصور في تفاعل المسلمين مع الكون ومع الواقع المشاهد.
يقول ((جورج سارتون)): ((إن أعظم النتائج العلمية لمدة أربعة قرون إنما كانت صادرة عن العبقرية الإسلامية، كما أن معظم الأبحاث العلمية الممتازة مدة هذه القرون الأربعة، إنما نمت في لغة العلم الكبرى حينئذ وهي اللغة العربية) (2). ويقول ((برافولت)): ((إن ((روجربيكون)) درس العلم العربي دراسة عميقة وهو لا ينسب له أي
_____
(1) حقيقة الفكر الإسلامي ص 111 د. عبد الرحمن الزنيدي الطبعة الأولى 1415 دار السلم بالرياض.
(2) نقلا عن كتاب ((مناهج البحث لدى مفكري الإسلام)) ص 260 - مرجع سابق -


فضل في اكتشاف المنهج التجريبي في أوربا، إنه في الحقيقة ليس إلا واحدا من رسل العلم ونقلة المنهج الإسلامي إلى أوربا المسيحية، .. وليست هناك وجهة نظر من وجهات العلم الأوربي، لم يكن للثقافة الإسلامية تأثير أساس عليها) (1).
أما عن المنهج التوثيقي للأخبار والمرويات: ودراستها وتمحيصها في ضوء النقد الداخلي والخارجي للنصوص، وعن طرق التحليل والتركيب التاريخية وفحص الوثائق، وتوثيق النصوص، واستقراء الحوادث، وقياس الغائب على الشاهد، وغير ذلك من قواعد وضوابط المنهج التاريخي.
أقول: لقد سبق علماء المسلمين علماء أوربا بعدة قرون في وضع المنهج التوثيقي وضبط قواعده، وليس صحيحا ما يقال: بأن ((فلنج)) و ((لانجلو)) وغيرهما من علماء النهضة الغربية الحديثة هم الذين وضعوا قواعد التحقيق والتوثيق في المنهج التاريخي.
لقد تمت صياغة المنهج التوثيقي في أروع صوره، وعلى نحو فريد لا يوجد له نظير من قبل ولا من بعد، على يد علماء الحديث منذ القرن الثاني الهجري (عصر تدوين السنة وتمحيصها)، فقد وضع علماء السنة منهج التحقيق للمرويات رواية ودراية، ولم تقتصر عنايتهم على السند وإنما امتدت، أيضا إلى دراسة المتن ووضعوا أصول الجرح والتعديل، وصنفوا في طبقات الرجال وفي تواريخ الرجال،
_____
(ا) نقلا عن كتاب ((مناهج البحث لدى مفكري الإسلام)) ص 277 - مرجع سابق -.


وقسموا الخبر إلى درجات من الصحة والحسن والضعف والوضع بحسب درجات الضبط والعدالة، وقد تبرمج هذا المنهج كاملا فيما يعرف بعلم مصطلح الحديث.
وكذلك من يدرس طرق التحقيق التاريخي عند المؤرخين المسلمين -خاصة- عند التاج السبكي، وابن خلدون، والسخاوي، وغيرهم، سيجد براعتهم النادرة في تفسير الظواهر العرضية تفسيرا يستند على التحليل والتركيب، ويعتمد على استقراء الحوادث العارضة في المشاهدة من أجل الوصول إلى أحكام دقيقة وموازين عامة في قراءة التاريخ.
وهذا يؤكد لنا سبق المسلمين وريادتهم في صياغة المنهج التوثيقي بشقيه أي في الأخبار الشرعية، وفي الروايات التاريخية.

Post a Comment

أحدث أقدم