فوائد التهجد
من الأمور التي حث الشرع عليها قيام الليل ويقصد به صلاة
النافلة وقت منام الخلق وخاصة في الهزيع الأخير من الليل ، ويقال له : التهجد وهو
ما كان بعد نوم ، يقول تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم : { ومن الليل فتهجد
به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [ الإسراء : 79 ] وفي موضع آخر يقول تعالى
: { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } [ المزمل : 6 ] والمقصود من ذلك أن
قيام الليل هو أنسب الأوقات لاستجماع الفكر وتفهم القراءة حيث لا شاغل ولا صارف عن
ذلك(2)
وإذا تدبر المرء ما يتلو من آيات في ظلمة الليل البهيم
والناس نيام كان ذلك أدعى للتدبر والتفكر ولأن تؤتي القراءة ثمارها اليانعة ، وقد
رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في قيام الليل في أحاديث كثيرة نذكر بعضا منها :
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله
أخبرني بشيء إذا عملت به دخلت الجنة ، قال : أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام
وقم بالليل والناس نيام وادخل الجنة بسلام
[ أحمد :
2/295 وصححه الألباني برقم 1096 في صحيح الجامع ]
وعن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها
الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصل بالليل والناس نيام
[ أحمد :
5/343 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2119 ]
وأورد المروزي بسنده عن بلال ـ رضي الله عنه ـ قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم
بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وإن قيام الليل قربة إلى الله وتكفير للسيئات
ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسد (1)
[ رواه
أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3958 ]
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام
بعد شهر رمضان صيام شهر المحرم [ مسلم : 2/821]
وقد شهد عليه الصلاة والسلام لمن يقوم الليل بسلامته من
الإثم والفجور فقال : جعل الله عليكم صلاة قوم أبرار يقومون الليل ويصومون النهار
ليسوا بأثمة ولا فجار ، [ رواه عبد بن حميد ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع
برقم 3092]
ومن ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على صلاة الليل لقوله عليه
السلام : شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس
[ رواه
الخطيب والعقيلي ، نقلا عن الألباني في صحيح الجامع برقم 3604]
ما أكثر الفوائد التي يجنيها الفرد من قيام الليل لتربية
ذاته وصلاح حاله ولعل من أهم الثمار التي يتحصل عليها هي تنمية وازع الإخلاص الذي
هو أحد شرطي قبول العمل ، وفي قيام الليل يربي الإنسان نفسه على تحقيق الشرط
الثاني من شرطي قبول العمل وهو المتابعة حيث ثبت أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، أضف إلى ذلك أن من تدبر القرآن أثناء هجوع
الناس أحس بتقصيره وندم على تفريطه ، ومن خشع في القراءة والصلاة سالت منه عبرات
التوبة والندم ، وإذا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه حشره رب العزة والجلال في ظل
عرشه يوم لا ظل إلا ظله ولا عفو إلا عفوه
وحين ينصرف الناس إلى محبوبيهم من أهل الدنيا يتوسطون لهم
لقضاء حاجاتهم ، يثوب المؤمن إلى ربه مخبتا ويصلي من الليل ما شاء الله له أن يصلي
ويدعو ما شاء الله له أن يدعو عله أن يقضي له حوائجه ويغفر له ذنوبه أو يدخرها له
إلى أن يلقاه ، ويدعو الله بأن يؤتي نفسه تقواها ويزكيها ويخلصها من شرورها
وآثامها ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ينزل
ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول : من يدعوني
فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟
[ أحمد :
2/487 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8024]
وبعد كدح النهار والسعي لجلب لقمة العيش يأوي الناس إلى
فرشهم الدافئة ، ويلتذ أهل المعاصي بشهواتهم ومعاصيهم كما يلتذ المؤمن بالوقوف بين
يدي ربه لمناجاته والتزود لاستقبال يوم جديد على عمله شهيد ، والزاد الإيماني
ضروري جدا لمواصلة العطاء وتحمل التبعات والتكاليف التي حملها الإنسان وذلك يحتاج
إلى استعداد طويل ، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ :
وإن الاستقامة على هذا الأمر بلا تردد ولا ارتياب ولا تلفت
هنا أو هناك وراء الهواتف والجواذب والمعوقات لثقيل يحتاج إلى استعداد طويل ، وإن
قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها والاتصال بالله
وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه وترتيل القرآن والكون ساكن
وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ
بشري ولا عبارة ، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي ... , إن
هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر
الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل ، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل
ويعصمه من وسوسة الشيطان ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير ... وإن
في مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش بعد كد النهار أشد وطأ وأجهد للبدن ولكنها
إعلان لسيطرة الروح واستجابة لدعوة الله وإيثار للأنس به(1)
ولا عجب أن يكون التأكيد الإلهي بالمحافظة على هذه الشعيرة
والترغيب فيها حتى في الحالات التي يعيا فيها المرء من شغل النهار ويرنو للاسترخاء
والاستراحة ، قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب ، وإلى ربك فارغب } [ الشرح :7 ، 8 ]
ولا عجب أيضا أن يكون الجزاء الأخروي كبير جدا ، بل لا يعلم مداه إلا الله ، قال تعالى
: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ، فلا
تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون } [ السجدة : 16 ، 17 ]
وقد كان سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ من رواد مدرسة
الليل وكانوا بحق رهبانا في الليل فرسانا في النهار وعلى أيديهم انتشر النور وعم
الضياء فزكوا أنفسهم وزكوا غيرهم
يقول أحد التربويين : وأكثر من هذا فإن من يتخرج من مدرسة
الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ، والمتخلف عنها يابس تقسو قلوب
الناظرين إليه والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القديم شاهده وأرشدك إليه
فقال : بحسبك أن قوما موتى تحيا القلوب بذكرهم وإن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم
، فلم كان ذلك إن لم يكن ليل الأولين يقظة وليل غيرهم نوما ؟ ونهار الأولين جدا
ونهار الآخرين شهوة ؟(2)
وحسبنا شاهدا على هدي سلف الأمة في قيام الليل مقالة الحسن
البصري ـ رحمه الله ـ عنهم حيث يقول : لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا
الليل سجدا وقياما ، يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ، فمرة
ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم ، لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم
من حسن الرجاء في يوم المرجع فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله في أبدانهم
فرحين وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين ، فرحم الله امرأ نافسهم في مثل هذه
الأعمال ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله فإن الدنيا عن
أهلها منقطعة والأعمال على أهلها مردودة(1)
ودقائق الليل الغالية لم تفلت من قريحة الشعراء فهي عندهم
ليست برخيصة ولذا أوسعت إنشادا وتقريضا ، يقول ابن القيم في وصف رجال الليل الذين
يغتنمون تلك الدقائق :
يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال
بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي
ويعتبر قيام الليل مدرسة عظيمة تعلم تلاوة القرآن بخشوع
وتدبر ، وهي تربي في الفرد مداومة ذكر الله والإخلاص في عبادته وتشد القلب إلى
خالقه
ومدرسة الليل مفتوحة لكل فرد أن ينضم إليها فيقتبس الدروس
العظيمة والمعاني الكبيرة في تربية الذات ، والانتظام بهذه المدرسة لا يكلف شيئا
إلا مجاهدة النفس من أجل مصلحتها وهى من أجل تربيتها وتقويمها
إرسال تعليق