إن أول مدينة حقيقية في موقع أورشليم هي أورشليم عصر الملك آحاز , وهي الوحيدة التي لدينا عنها وثائق أركيولوجية وتاريخية كافية . من هنا , فإن المؤرخ لا يستطيع أن يبدأ دراسته للتاريخ السياسي والثقافي والديني لأورشليم , ويهوذا بشكل عام , إلا اعتبارا من فترة حكم هذا الملك, أما ما قبل ذلك فهو بمثابة " ما قبل تاريخ " . والملوك الأحد عشر من سلالة الملك الأسطوري داود, الذين يخبرنا محرر سفر الملوك الأول و محرر سفر الملوك الثاني عن تتابعهم على عرش أورشليم, فلم يكونوا في حال صحة ابتدأ في زمن ما من مطلع القرن الثامن قبل الميلاد .
وجد آحاز نفسه ملقى في حلبة السياسة السورية المعقدة . فالأشوريون الذين كانوا يضغطون بقوة على مناطق غربي الفرات منذ معركة قرقرة عام 854 ق.م, والتي جرت بين التحالف السوري بزعامة هددعدر ملك دمشق و شلمنصر الثالث ملك آشور, قد تحولوا في عهد تغلات فلاصر الثالث إلى سياسة ضم الأراضي المفتوحة إلى التاج الآشوري . و كانت مملكة دمشق ما زالت تواجه آشور بكل عناد وقوة , وتدافع عن نفسها وعن بقية ممالك غربي الفرات , بواسطة الأحلاف العسكرية التي كانت تقودها و التي أثبتت فعاليتها خلال أكثر من قرن من الحروب الشرسة بين السوريين والآشوريين.
لم تسع دمشق إلى تشكيل إمبراطورية واسعة في مناطق غربي الفرات , بل اكتفت بتشكيل نظام إقليمي سياسي يهدف إلى حماية المنطقة عسكريا ويوحد كلمتها سياسا . ولهذا وجدت نفسها مضطرة إلى التدخل عسكريا ضد أية دولة سورية تهادن آشور و تقبل دفع الجزية لها . وقد تلقت مملكة إسرائيل ضربة عسكرية قاصمة من دمشق عندما نقضت عهدها معها بعد معركة قرقرة ( التي حارب فيها ملكها آخاب تحت إمرة ملك دمشق وقدم إلى المعركة أكبر قوة عسكرية ضاربة بين المتحالفين ) حيث اجتاحها الملك حزائيل خليفة هدد عدر و أفنى قوتها العسكرية حتى لم يبق لملكها يهوآحاز سوى خمسين فارسا و عشر مركبات , على ما يذكره لنا محرر سفر الملوك الثاني : 13. كما قام بن هدد ابن حزائيل بحملة عسكرية ضد مملكة حماة للسبب نفسه , فحاصر ملكها زاكير في مقره الملكي بمدينة حاتريكا بمعونة حلف مؤلف من ستة ممالك سورية شمالية. وأخبار هذه الحملة موثقة في نص تركه زاكير نفسه باللغة الآرامية .
عندما إعتلى آحاز عرش أورشليم حوالي عام 735 ق.م , كانت دمشق ما زالت تحاول القبض بيد من حديد على الممالك السورية , ولكنها غدت في الوقت نفسه قوة منهكة سياسيا وعسكريا و إقتصاديا, بعد أن دفعت الثمن الأكبر في الحروب السورية الآشورية.ويبدو أن ملكها الأخير رحيانو كان يجهز لحلف جديد يواجه به أعنف ضربة متوقعة على وسط و جنوبي سورية . فحاول إقناع كل من فقح ملك السامرة و آحاز ملك أورشليم بالانضمام إليه في المعركة المقبلة , فقبل فقح أما آحاز, الذي كان قد اتخذ قراره بالخضوع لآشور و التبعية لها, وعدم تعريض مملكته الفتية للأخطار وهي التي لم تواجه حتى الآن القوة العسكرية الآشورية, فقد قبل دفع الجزية لتغلات فلاصر ورفض الدخول في حلف دمشق الجديد , مؤسسا بذلك لسياسة استمرت بعده طيلة حياة مملكة يهوذا , وأدت إلى ازدهارها ودخولها في عصر ذهبي . لم تكن دمشق لتقبل بقيام دولة عميلة لآشور في مناطقها الجنوبية, لا تكتفي بالعمالة ودفع الجزية و إنما تقدم لآشورأيضا دعما عسكريا , على ما ستبينه لنا مجريات الأحداث فيما بعد, فاتفق رحيانو ملك دمشق ( الذي يدعوه النص التوراتي رصين Razen - ) و فقح ملك السامرة على قتال آحاز وصعدت جيوشهما فحاصرت أورشليم بغية فتحها وتنصيب ملك آخر عليها ينزع طاعة آشور. ومصدرنا عن هذه الحرب هونص سفر الملوك الثانى 16 , و نص سفر أشعيا 7.
لا يقدم لنا محرر سفر الملوك الثاني أية أسباب مقنعة دعت دمشق و السامرة لمحاربة أورشليم وإنما يكتفي بالقول :" في السنة السابعة عشر لفقح بن رمليا , مَلَكَ آحاز بن يوثام على يهوذا . كان آحاز إبن عشرين سنة حين ملك وملك ست عشرة سنة في أورشليم . ولم يعمل المستقيم في عيني الرب إلهه.... حينئذ صعد رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة, فحاصروا آحاز ولم يقدروا أن يغلبوه ... وأرسل آحاز رسلا إلى تغلات فلاصر ملك آشور قائلا
أنا عبدك وابنك , اصعد وخلصني من يد ملك آرام وملك إسرائيل القائمين علي . فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية . فسمع له مِلك آشور وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير وقتل رصين . وسار آحاز للقاء تغلات فلاصر ملك آشور إلى دمشق " الملوك الثاني 16 : 1 – 10 .
إن من يقرأ هذا الخبر في سفر الملوك الثاني , يظن أن تغلات فلاصر قد قبل رشوة آحاز, وأنه قد عبر الفرات بقواته خصيصا لنجدة أورشليم . ولكن السجلات الآشورية تعطينا صورة تقريبية عن حقيقة ما حدث في ذلك الوقت . ففي حوالي 733ق.م, شن تغلات فلاصر الثالث حملة على مناطق غربي الفرات استهدفت سورية الجنوبية , وبشكل خاص دمشق والسامرة اللتان كانتا تجهزان لحلف جديد . حاصر تغلات فلاصر السامرة أولا وخلع الملك المتمرد وعين بدلا عنه أحد قادته ويدعى هوشع , ثم ألحق كل ممتلكاتها الواقعة خارج الهضاب الشمالية بالتاج الآشوري. بعد ذلك توجه إلى دمشق فحاصرها ولم يقدر على اقتحامها , فإنتقم من رحيانو بإحراق بساتين الغوطة المحيطة بالمدينة ثم انسحب. وفي العام التالي ( 732 ق.م ) عاد إلى دمشق مرة أخرى ففتحها وألغى استقلالها . ويبدو أن ملكها رحيانو قد قتل أثناء الدفاع عن المدينة . لم تتأخر السامرة كثيرا عن اللحاق بدمشق . فقد تمردت مجددا عام 722ق.م , وجرى فتحها وتدميرها وسبي أهلها إلى آشور عام 721ق.م من قبل الملك الآشوري صارغون الثاني . ولم تقم للسامرة قائمة بعد ذلك التاريخ كدولة مستقلة وإنما بقيت مقاطعة آشورية ثم فارسية ثم هيلينستية ثم رومانية.
لقد وضع آحاز نفسه في خدمة آشور منذ توليه السلطة, إلا أنه لم يقطف ثمار عمالته لآشور إلا بعد القضاء على استقلال دمشق في الحملة التي شاركت فيها أورشليم بقوات رمزية , وبعد دمار السامرة المنافس الرئيسي لأورشليم في المنطقة. فبعد عام 721ق.م حصلت في يهوذا سلسلة من التحولات السريعة التي غيرتها تغيراً كاملاً, عندما وضعت نفسها بشكل كامل في خدمة النظام الاقتصادي الآشوري في المنطقة, وجعلت نفسها جزءاً منه. وتدلنا التنقيبات الأثرية في المناطق الواقعة إلى الجنوب من بئر السبع , على ظهور مفاجىء للعديد من القرى و البلدات التي لعبت دور المحطات التجارية على طول الطريق التجاري الصاعد من الجزيرة العربية . الأمر الذي يدل على أن أورشليم قد شاركت بشكل فعال خلال أواخر القرن الثامن في عجلة تنشيط التجارة مع الجزيرة العربية تحت إشراف الإدارة الآشورية . ومن ناحية أخرى فإن الازدهار المفاجىء لصناعات الزيت والفخار والخمور , يدل على أن أورشليم قد فتحت لنفسها أسواقا خارجية على نطاق واسع وغدت مركزا لتبادل البضائع النقدية وهذا ما أدى إلى تراكم الثروة فيها ونشوء شريحة بيروقراطية مدربة حول الطبقة الحاكمة, توجه وتدير شؤون البلاد ,
عين آحاز إبنه حزقيا وليا للعهد ومشاركا له في الحكم وهو ما زال غلاما مراهقا, فحكم إلى جانب أبيه مدة أربع عشرة سنة قبل إنتقال السلطة إليه كاملة بوفاة أبيه. وبذلك امتدت سنوات حكمه من 729 إلى 686 ق.م . أفرد محرر سفر الملوك الثاني لحزقيا حيزا قلما أفرد لملك آخر . فهو الملك الصالح الذي أعاد عبادة يهوه في هيكل أورشليم إلى سابق عهدها , بعد أن انحرف أبوه آحاز عن الدين القويم و عبد آلهة الأقوام الأخرى . وهو من وسع أراضي المملكة وضم إليها مناطق جديدة . وهو من حصن أورشليم وبقية مدن يهوذا . وهو من زاد غلة الزراعة وكثر المواشي وجعل طرق التجارة آمنة. وهو الذي أجرى مياه نبع جيحون في قناة تحت المدينة لتصب عند الجهة الغربية من الهضبة. ولكن حزقيا هذا قد قام بأول وآخر محاولة تمرد على آشور , وتم ذلك بتحريض من مصر التي وعدته بالمساعدة.
وفي الحقيقة فإنه لا يوجد لدينا مبرر للشك في الصورة التي قدمها محرر سفر الملوك الثاني عن حزقيا. فالتنقيبات الأثرية الحديثة في موقع أورشليم تدل على تحسينات و إضافات وترميمات هامة على سور المدينة يمكن إرجاعها إلى عصر حزقيا , وكانت التنقيبات القديمة قد كشفت عن القناة التي حفرها حزقيا تحت موقع أورشليم اليبوسية , وأجرى فيها مياه نبع جيحون من الجهة الشرقية إلى الجهة الغربية لهضبة عوفيل, لتصب في بركة سلوام التي تقع في مكان مموه ويسهل الدفاع عنه في أحوال الحصار. ومن ناحية أخرى فإن قرار التمرد على آشور تتخذه دولة مستقرة إقتصاديا وسياسيا, وتقوم بدور الشريك في النظام الإقتصادي الآشوري وتعمل على حماية مصالحه , يدل على ما وصلت إليه أورشليم من قوة ومن ثقة بالنفس, وإحساس النخبة الحاكمة فيها على مقدرتها على حشد الموارد لتمويل المواجهة مع آشور .
كان صارغون الثاني قد أبقى على استقلال أورشليم وتفادى الاقتراب من أراضيها , رغم ما ألحقه من دمار بالسامرة وعدد من مدن الساحل الفليستي مثل أشدود وغزة, وعقرون التي صورت مشاهد اقتحامها على نحت بارز عثر عليه في قصر صارغون . فلقد أفلح آحاز في كسب رضا صارغون, مثلما أفلح في كسب رضا سلفيه شلمنصر الخامس وتغلات فلاصر الثالث . ولكن طموحات حزقيا وإحساسه بمقدرة أورشليم على لعب دور إقليمي بارز في فلسطين وبقية سورية الجنوبية, دفعته لاتخاذ قرار بدا له صائبا في ذلك الوقت. فبعد وفاة صارغون الثاني غابت الجيوش الآشورية عن مناطق غربي الفرات حوالي أربع سنوات , وبدت قوتها ومقدرتها على شن غزوات جديدة موضع شك , الأمر الذي سول للعديد من ممالك سورية الجنوبية التمرد ورفض اداء الجزية. وقد بدا لحزقيا حينئذ أن من الأفضل له أن يركب الموجه ويفيد منها , بدلا من أن يبقى عميلا لقوة إمبراطورية بدت له في طريق الأفول . يضاف إلى ذلك أن مصر التي كانت سابقا تعد بالمساعدة ثم لا تفي بوعودها , قد تحركت هذه المرة بسرعة, وقبل أن تصل القوات الآشورية لإخماد التمرد الجديد , كانت القوات المصرية متواجدة بكثافة في فلسطين , وجاهزة للتدخل إلى جانب حزقيا وغيره من الملوك الذين وعدتهم بالمساعدة .
في عام 701ق.م شن الملك سنحاريب حملة على مناطق غربي الفرات استهدفت الممالك الفينيقية والفلسطينية المتمردة . بعد إخضاعه فينيقيا , هبط سنحاريب نحو الساحل الفليستي فأخضع أشقلون زعيمه تحالف المدن الفليستية, ثم صعد إلى سهل شفلح وحاصر مدينته الرئيسية لخيش ثم اقتحمها ودمرها تدميرا كاملا . وكان حزقيا قد خرج لملاقاته وعسكر في مكان يدعوه النص الآشوري بسهل ألتقو (Al – ta – qu ) الذي يرجح أن يكون موقع التقيه التوراتي على بعد بضعة كيلو مترات جنوبي عقرون . ولكن المعركة انجلت عن هزيمة حزقيا و القطعات المصرية المساندة له فانسحب إلى أورشليم, حيث حاصره الجيش الآشوري بعد تدميره لستة وأربعين قرية وبلدة في يهوذا. وبعد حصار طويل وافق حزقيا على دفع الجزية والخضوع مجددا لآشور فارتد عنه سنحاريب ولم يقتحم المدينة .
إرسال تعليق