تظهر التنقيبات الأثرية في أورشليم ما حصل فيها من تطور سريع ومفاجئ ففي مطلع القرن الثامن جرى تحصين المدينة اليبوسية على ذروة هضبة عوفيل , كما جرى توسيعها باتجاه الشمال , حيث ضمت إليها المنطقة الواقعة بين السور الجنوبي للحرم الشريف والسور الشمالي للمدينة اليبوسية , وهي المنطقة التي دعتها كاثلين كينيون خطأ بمنطقة التوسعات السليمانية. وفي أواخر القرن الثامن كانت الأحياء السكنية قد توسعت غربا عبر الوادي المركزي الذي يفصل سلسلتي جبال القدس الشرقية والغربية, فجرى إحاطة المنطقة السكنية الجديدة بسور ضخم . ويقدر بعض الباحثين أن سكان المدينة في أواخر القرن الثامن قد تجاوز الـ 15000 نسمة ضمن مساحة زادت عن الخمسين هكتارا .
تتعزز هذه الصورة الأركيولوجية لأورشليم بالصورة التاريخية. فخلال كامل الألفية الفاصلة بين القرن الثامن عشر و القرن الثامن قبل الميلاد , عاشت المدينة على هامش الأحداث , ولم يرد ذكرها سوى مرتين فقط في النصوص المصرية . أما النصوص الآشورية فقد تجاهلتها تماما, وكذلك الأمر فيما يتعلق بالنصوص المحلية السورية. فبينما يرد ذكر مدينة حاصور الجليلية في نصوص مدينة إيبلا منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد, و يرد أيضا في أرشيف مدينة ماري, الذي يعود إلى القرن الثامن عشر , حوالي عشرين مرة كمدينة تجارية مهمة في الشمال الفلسطيني , فان أورشليم التي عاصرت في نشأتها أرشيف مدينة ماري كانت مجهولة تماما من قبل البعثات التجارية و الديبلوماسية المتبادلة بين بلاط ماري و بلاط حاصور.
ورد ذكر أورشليم لأول مرة في نصوص اللعنات المصرية Execration Texts التي تعود إلى القرن الثامن عشر ( وهي نصوص سحرية تكتب على جرار فخارية يجري تحطيمها في طقس سحري خاص من شأنه جلب الأذى على أسماء المذكورين عليها ) . فقد ورد اسم أورشليم واسم حاكمها ضمن لائحة مدن فلسطينية وفينيقية اعتبرت من أعداء مصر في المنطقة . وبما أن ملوك مصر لم يكونوا في ذلك الوقت المبكر قد بسطوا سلطانهم على مناطق فلسطين, ولم يكن لهم فيها تواجد عسكري دائم, فإن عداء مصر للمدن الوارد ذكرها في نصوص اللعنات, لابد وأنه ناجم عن قيام حكام هذه المدن باعتراض طرق القوافل التجارية المصرية وفرضهم عليها الإتاوات الباهظة . أما الحملات القليلة الموثقة على سورية في عهد المملكة المتوسطة , فلم تكن تهدف إلا إلى تأديب الحكام المحليين وتأمين سلامة الطرق التجارية التي تصل مصر بسورية وبابل وآسيا الصغرى . ومنها الحملة التي شنها سنوسرت الثالث ( Sen – Usert III ) وبلغ فيها مدينة شكيم في منطقة الهضاب الشمالية .
بعد نصوص اللعنات بأكثر من أربعة قرون يرد ذكر أورشليم في أرشيف تل العمارنة الذي عثر عليه في القصر الملكي بعاصمة الملك أخناتون , ويعود إلى أواسط القرن الرابع عشر. تشكل الرسائل المتبادلة بين أمراء المحميات المصرية في سورية الجنوبية والبلاط المصري الجزء الأكبرمن محتويات الأرشيف, وهي تصف حالة الفوضى التي آلت إليها المنطقة بعد تراخي قبضة مصر العسكرية , ونزاعات الممالك المحلية, وظهور جماعات العابيرو المسلحة وهي كتائب عسكرية مرتزقة كانت تؤجر خدماتها لمن يدفع أكثر . بين هذه الرسائل خمسة أرسلها إلى إخناتون حاكم منطقة أورشليم المدعو عبدي هيبة , يشكو فيها من تعديات جيرانه بسبب ولائه للفرعون, وهجمات العابيرو على منطقته, ويطلب من مصر قوات دعم وحماية. لقد اعتبرت رسائل تل العمارنة لفترة طويلة بمثابة برهان على أن أورشليم كانت في القرن الرابع عشر دولة - مدينة (Sity State ) قوية ومهمة , إلا أننا نعرف الآن أن لب منطقة يهوذا وهو المنطقة الواقعة بين أورشليم في الشمال وشكيم في الجنوب لم يكن يحتوي في ذلك الوقت إلا على ثمانية قرى صغيرة, وأن عدد السكان هنا , بما فيهم أورشليم لم يتجاوز الـ 1500 نسمة . من هنا ترى مارغريت شتاينر بأن عبدي هيبة لم يكن ملكا على مدينة , وإنما حاكما على منطقة محدودة من الأرض, مهمته حماية المصالح المصرية فيها , و أنه كان يقيم في حصن صغير قرب نبع جيحون في الوادي أسفل هضبة عوفيل. أما المؤرخ الإسرائيلي ناداف نعمان Nadav Naaman فيرى بأن أورشليم عبدي هيبة لم تكن إلا مقرا إداريا تقيم فيه نخبة حاكمة تدير شؤون عدد قليل من القرى الزراعية و الجماعات الرعوية. وفي الحقيقة , فإن من يقرأ رسائل عبدي هيبة بعناية يرى أن الرسائل لا تشير إلى أورشليم على أنها مدينة , ولا تذكر شيئا عن تحصيناتها وبواباتها, بل تشير دوما إلى" أراضي أورشليم". كما أن بعض التفاصيل الصغيرة في الرسائل تدل على ضآلة منطقة أورشليم هذه. ففي الرسالة المعروفة بالرمز EA,NO 289, وبعد أن يطيل عبدي هيبة شرح وضعه الدقيق والأخطار المحدقة به من قبل المدن التي عصت على الفرعون ومن قبل العابيرو , فإنه يطلب من البلاط قوات حماية لايزيد عددها عن خمسين جنديا مصريا .
بعد رسائل تل العمارنة يصمت التاريخ صمتا مطبقا عن أورشليم وصولا إلى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد, حيث يرد اسم ملكها الدعو آحاز في لائحة ملوك منطقة غربي الفرات الذين أدوا الجزية للملك الآشوري تغلات فلاصر الثالث, حوالي عام 735 ق.م . هذا الصمت التاريخي ليس من قبيل الصدفة أو من قبيل النقص في معلوماتنا التاريخية , لأن النصف الأول من الألف الاول قبل الميلاد هو من الفترات الموثقة تاريخيا بشكل جيد, والنصوص التاريخية الآشورية التي دونت بالتفصيل أخبار حملات ملوك آشور, لم تترك مملكة في سورية الجنوبية إلا وجاءت على ذكرها وذكر اسماء ملوكها. من هنا فإننا لا نستطيع تفسير عدم اهتمام ملوك آشور بأورشليم إلا بفقر المدينة وضآلتها وافتقاد مرتفعات يهوذا إلى ما يغري الفاتح الآشوري .
يتزامن ورود ذكر أورشليم في السجلات الآشورية مع تحول المدينة إلى عاصمة إقليمية قوية, و بسطها لسلطتها على كامل مرتفعات يهوذا . فمع أواخر القرن الثامن فقط تبدأ اللقى الأثرية بإعطائنا مؤشرات على تأسيس دولة مركزية مكتملة في الهضاب الجنوبية . فقد انتشرت الكتابة بشكل واسع , وظهرت الكتابات التذكارية والأختام وطبعات الأختام , والعمارة الضخمة , و الإنتاج المركزي للفخار والزيت والخمور, حيث تحولت الصناعات والحرف لأول مرة من شكلها العائلي البسيط إلى شكل الإنتاج الواسع الذي يعمل بتوجيه مركزي .
إرسال تعليق