سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين
لم تقتصر سماحة النبي r مع المسلمين فقط بل شملت أهل الكتاب والمشركين أثناء الحرب فقد أوصى بالقبط خيرًا وثبت عنه أنه قال: { إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا } ([1])([2]).
وفي صحيح مسلم { ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا } ([3])([4]).
قـال النووي: وفي رواية { ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيهـا القيراط، وفيها: فإن لهم ذمة ورحمًا } ([5])... " قال العلماء القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة فهي الحرمة والحق وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم ([6]) .
أما سماحته مع اليهود فعند ما قتل أحد الصحابة في أحد أحياء اليهود في خيبر فقد رضي وقبل r يمين اليهود إذ أقسموا أنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله فقد أخرج البخاري بسنده عن بشير بن يسار قال: { زعم أن رجلًا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفرًا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا قتيلًا، وقـالـوا للذي وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا وما علمنا قاتلًا، فانطلقوا إلى النبي r فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلًا، قال: الكُبرَ الكبرَ، فقال لهم تأتون البينة على من قتله ؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله r أن يُطَّلَّ دمه " فوداه مائة من إبل الصدقة } ([7])([8]).
قال ابن حجر: قوله: ( باب القسامة ) بفتح القاف وتخفيف المهملة هي مصدر أقسم قسمًا وقسامة، وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم، وخصّ القسم على الدم بلفظ القسامة، وقال إمام الحرمين: القسامة عند أهل اللغة اسم للقوم الذين يقسمون، وعند الفقهاء اسم للأيمان، وقال في المحكم: القسامة الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوب إليهم ثم أطلقت على الأيمان نفسها، قال القرطبي في المفهم: فعل r ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته وجلبًا للمصلحة ودرءًا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ جميع الأئمة والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صور الأخذ به... ( فيطلَّ ) بضم أوله وفتح الطاء وتشديد اللام أي يهدر ([9]).
قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق واليهودي ([10]).
ولو تتبعنا المعاهدات التي صدرت عن النبي r لوجدنا فيها ضروبًا من التسامح والموادعة والمساواة، ومن هذه المعاهدات " إعلان دستور المدينة الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة منها ما يخص موادعة اليهود كما يأتي:
24 - إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
31 - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
37 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر عـلى مـن حـارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
45 - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
46 - وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
47 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله r) ([11]).
قال ابن زنجويه: وقوله: " إن اليهود يُنِفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين " فهو النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه، ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين لهذا الشرط الذي شرط عليهم من النفقة، ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.
وقوله: " إن يهود بني عوف أمة من المؤمنين " إنما أراد نصرهم المؤمنين، ومعاونتهم إياهم على عدوهم، بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدّين فليسوا منه بشيء، ألا تـراه قـد بين ذلك فقال: لليهود دينهـم وللمـؤمنين ديـنهم، وقـولـه " لا يوتغ إلا نفسه " يقول: لا يهلك غيرها ([12]).
وقد قام بتحليل هذه المعاهدة مؤرخ السيرة أ. د. أكرم بن ضياء العمري، وأنقل ما ذكره بخصوص اليهود فقال: قد تناولت البنود من 25 إلى 35 تحديد العلاقة مع المتهودين من الأوس والخزرج، وقد نسبتهم البنود إلى عشائرهم من العربية، وأقرت حلفهم مع المسلمين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" وقد وردت العبارة في كتاب الأموال " أمة من المؤمنين " مما جعل أبا عبيـد يقـول: " فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفـقـة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم " ([13])أما ابن إسحاق فقد قال: " مع المؤمنين " وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحّف، وقد كفلت المادة رقم 25 لليهود حريتهم الدينية، كما حددت مسئولية الجرائم وحـصرتها في مـرتكبها ( إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ - أي لا يهلك - إلا نفسه وأهل بيته ) فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين ( لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم)... كما أن المعاهدة امتدت بموجب البند رقم 45 لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة حلفاء الطرف الآخر لكن المسلمين استثنوا قريشًا " إلا من حارب في الدين " لأنهم كانوا في حالة حرب معهم ([14]).
كما نرى تسامحه مع أهل الكتاب من الذين يعادون ويخالفون فيما يفتي إذ يتكلمون فيه ويبلغه ذلك، ثم يقدم لهم الهدية من اللبن أخرج مسلم بسنده عن أنس { أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِّ r النبيَّ r فأنزل الله تعالى: { tRqè=t«ó¡our Ç`tã ÇÙÅsyJø9$# ( ö@è% uqèd ]r& (#qä9ÍtIôã$$sù uä!$|¡ÏiY9$# Îû ÇÙÅsyJø9$# ( } ([15])إلى آخر الآية فقـال رسـول الله r " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله ! إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله r حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي r فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما } ([16]).
بل نجد سماحته مع لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي rفي مشط ومشاطة وجف طلع نخل ذكر في بئر روان، وحينما أخبر عائشة بذلك قالت له: أفلا استخرجته ؟ قال: { قد عافاني، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا، فأمر بها فدفنت } ([17]).
المشاطة وما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاط من مشاطة الكتان ([18]).
وهكذا كان تسامحه مع بعض المنافقين فقد تحمل المنافق عبد الله بن أُبي ابن سلول قصة الإفك ومع ذلك فقد عفا عنه r ([19]) بل حينما مات عبد الله بن أُبي غطّاه بقميصه واستغفر له حتى نزل قوله تعالى: { öÏÿøótGó$# öNçlm; ÷rr& w öÏÿøótGó¡n@ öNçlm; bÎ) öÏÿøótGó¡n@ öNçlm; tûüÏèö7y Zo§sD `n=sù tÏÿøót ª!$# öNçlm; 4 } ([20]).
كما عفا النبي r عن عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي { بينما كان النبي r يقسم فقال له: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم مـن الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر نضيّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة، أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس، قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي r وأشهد أن عليًّا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجـــل على النعـت الذي نعـته النبي r قال: فنزلت فيه { Nåk÷]ÏBur `¨B x8âÏJù=t Îû ÏM»s%y¢Á9$#}([21]) } ([22]).
إنها غاية السماحة إذ لم ينتصر رسول الله rلنفسه بل عفا عنه.
كما له مواقف أخرى مع المشركين فقد أخرج النسائي بسنده الثابت عن عبد الله بن مغفل المزني، قال: { كنا مع رسول الله r بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله r فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقـال رسـول الله r " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فأخـذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: " اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة "، فأمسك بيده فقال: لقـد ظلمناك إن كـنت رسـولًا، اكتـب في قضيتنا ما نعـرف، فقـال: " اكتب هـذا مـا صـالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله "، قال فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي r فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله r " هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانًا "، فقـالـوا: لا، فخلى سبيلهم، فـأنزل الله U { uqèdurÏ%©!$# £#x.öNßgtÏ÷r& öNä3Ytã öNä3tÏ÷r&urNåk÷]tã } ([23])إلى قوله { #·ÅÁt/ ÇËÍÈ } ([24]) } ([25]) .
لقد كان بإمكانه أن يأسرهم أو أن يقتلهم ولكن سماحته تأبى ذلك بل قال لهم ولغيرهم من أهل مكة حينما فتحها: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فقد تجلّت روح التسامح عند النبي r حتى في الحرب فقد قال لهم أيضًا: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن ([26]) .
ومن تسامحه مع المشركين أيضًا أنه كان لا يمنع صلة المسلمين بأهلهم المشركين فقد أخرج البخاري بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قـالـت: {أتـتـني أمـي راغبـة في عهـد النـبي r فسـألت النبي r أصلـهـا ؟ قـال: " نعم } ([27])([28]).
([25]) (التفسير 2 / 312-314 ح531)، وأخرجه أحمد (المسند 4 / 86- 87)، والحاكم (المستدرك 2 / 460-461) من طريق الحسين بن واقد عن ثابت به، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6 / 145)، وقال ابن حجر: أخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بسند صحيح (الفتح 5 / 315)، والحديث أخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس (الصحيح 3 / 1411 ح1784) بنحوه مختصرًا.
Post a Comment