القوانين السيكوفيزيائية للطبيعة
البحث في الطبيعة هو أمر ناتج عن الطبيعة الإنسانية التي هي مجبولة على حب المعرفة واكتشاف العالم. ولكن البحث في الطبيعة ليس هدفا في ذاته وإنما الهدف الحقيقي هو استخدام هذه المعرفة للتعامل مع العالم وتحقيق فائدة للإنسان وللمجتمعات الإنسانية. ولأن الإنسان يتعامل مع العالم في الواقع من خلال قوانين الطبيعة وليس من مجرد معرفته بها، فإن الهدف النهائي من تكوين نموذج عن العالم هو التوصل إلى القوانين الطبيعية التي تعتمد على وتتفق مع هذا النموذج. لذلك تتركز مهمتنا في هذا الجزء من البحث في طرح تصورنا عن قوانين الطبيعة التي تتفق مع النموذج المعتمد على مبدأ حرية الاختيار.
والتصور الذي نطرحه عن القوانين الطبيعية التي تتفق مع مفهوم حرية الاختيار، لا نجد له تصورات مشابهة في أدبيات فلسفة العلم. ولكن مع ذلك سوف يكون في إمكاننا الارتكاز على التصورات العمومية المطروحة في الأدبيات بخصوص قوانين الطبيعة. فارتكازا على هذه التصورات سنحاول أن نثبت أن تصورنا عن قوانين حرية الاختيار ليس متناقضا مع المفاهيم الحالية المستقرة في فلسفة العلم. بل وأكثر من ذلك سنحاول أن نبين أن مفهومنا الذي نقدمه للقوانين الطبيعية يمكن أن يكون تأويلا صحيحا أو توسيعا مقبولا للمجال الذي تنطبق عليه بعض المفاهيم القائمة فعلا في الأدبيات المعاصرة.
وتصورنا عن قوانين حرية الاختيار هو أن القوانين الطبيعية الفيزيائية ذاتها المطروحة الآن في صورة رياضية، سواء الميكانيكا النيوتونية أو نظرية النسبية أو ميكانيكا الكم، تقبل جميعا التطبيق بصورة كيفية على باقي مستويات الوجود، الحيوية والعقلية. وذلك اعتمادا على مبدأ درجات الحرية الذي يفيد بأن الاختلاف بين تلك المستويات هو فقط في درجة الحرية وليس في مبدأ الحرية نفسه. وهذه الدرجات تتراوح ما بين الدرجة الدنيا التي تقترب من الحتمية، كما في المادة غير الحية، وما بين الدرجات العليا كما في العقل الإنساني.
ولذلك فالعكس أيضا صحيح، فتصوراتنا عن القواعد (أو القوانين) التي تحكم عمل العقل الإنساني (استقبال وتحليل المعلومات واتخاذ القرار)، التي هي غائية في طبيعتها، تنطبق أيضا ولكن بصورة كيفية على المواد الحية وبصورة كمية على المواد غير الحية. وهذا ينتج في النهاية مجموعة واحدة من القوانين الطبيعية تنطبق على كافة مستويات الطبيعة ولكنها ليست متماثلة عند التطبيق. وإنما يكون تطبيقها مرتبطا بمستوى الموجود على سلم التطور، ولسوف نوضح هذا التصور بشكل أكثر تفصيلية فيما يلي من سطور.
أي أن تصورنا عن قوانين الطبيعة هو أن قوانين الطبيعة الموحدة تقبل التطبيق على الجانب العقلي أو النفسي للوجود وكذلك هي ذاتها تقبل التطبيق على الجانب المادي أو الفيزيائي للوجود. فهي قوانين لها شقين تطبيقيين في نفس الوقت عقلي-مادي أو نفسي- فيزيائي، أو كما تسمى في الأدبيات القوانين السيكوفيزيائية "Psycho-physical Laws" .
ويتأسس مفهومنا الجديد هذا على مفاهيم موجودة في أدبيات فلسفة العلم المعاصرة هي "شمولية القوانين" و"الواقعية البنيوية"، و"السمات الكيفية للقوانين"، و"التناظر". وهي مفاهيم سبق الإشارة  إليها بشكل موجز في سياق عرضنا للتحولات عن النموذج الميكانيكي للطبيعة. لذلك نبدأ في السطور التالية بتناول هذه المفاهيم الأساسية بشكل أكثر تفصيلية وبيان كيف تؤسس هذه المفاهيم للتصور الذي نقدمه عن قوانين الطبيعة.
القوانين السيكو فيزيائية و المفاهيم الأساسية لقوانين الطبيعة
أ‌-         عمومية وشمولية قوانين الطبيعة
التصور التقليدي هو أن العالم تحكمه قوانين ثابتة هي القوانين الميكانيكية، وأن هذه القوانين تظهر نفسها بصور مختلفة بحسب طبيعة الظواهر التي نتعامل معها. والمبدأ العام هو أن الطبيعة تحكمها قوانين ثابتة يمكن ردها جميعا إلى قوانين الفيزياء.
ولكن مع تطور العلم ونشأة علوم جديدة بالكلية واهتزاز كافة الأسس التي بني عليها النموذج الميكانيكي بدأ مفهوم وجود قوانين طبيعية ثابتة يصبح محل شك. وظهر ما عرضناه أعلاه من تصورات عن الميول الطبيعية والقوة الذاتية للموجودات باعتبارها منشأ القوانين الطبيعية. وترتب على ذلك ظهور تصور أنه ليس هناك ما يسمى بالقوانين الشاملة في الطبيعة وأن ما هو موجود هو مجموعة من القوانين الجزئية الخاصة بموضوعات العلم الجزئية، أو ما يسمى بالعلوم الخاصة .
ولكن مع ذلك لا يزال الفيزيائيون يبحثون عن النظرية الفيزيائية التي توحد قوى الطبيعة الأربعة الأساسية فيما يسمى بنظرية "كل شيء" . كما يحاول بعض الفلاسفة أن يضعوا الوعي الإنساني كقوة أساسية إضافية إلى جانب الكتلة والشحنة، بهدف تفسير طبيعة الوعي والإحساس الكيفي والشعوري بظواهر الطبيعة من خلال نظرية فيزيائية موحدة. 
وبذلك اصبح الموقف حاليا هو وجود تصورين متعارضين، الأول هو تصور وجود قوانين شاملة للطبيعة. والثاني هو تصور أن لكل مستوى من الوجود والعلوم المرتبطة به فئة معينة من القوانين الطبيعية تعبر عن الميول الطبيعية والقوى المرتبطة به.
وإذا تأملنا هذا الموقف سنجد أن تصورنا الذي قدمناه أعلاه عن إمكانية تطبيق القوانين الفيزيائية على كل مستويات الطبيعة ولكن بشكل كيفي، وهو التصور الذي سنوضحه بشكل تفصيلي فيما يلي، يقدم الحل الصحيح لهذه الإشكالية. ففي هذه الحالة تكون هناك قوانين شاملة ولكنها قوانين صورية لا تصبح واقعية إلا عند التطبيق في الواقع على مستوى معين من مستويات الوجود. فهو تصور يلبي متطلبات الأدبيات من حيث أهمية وجود قوانين عامة وفي نفس الوقت من حيث أهمية استقلالية العلوم الخاصة.
ب‌-       الواقعية
نشأت مشكلة الواقعية في تفسير قوانين الطبيعة بتأثير ما ظهر من صعوبة تفسير الظواهر المرتبطة بالجسيمات على المستوى دون الذري وظهور اتجاه الأداتية "Instrumentalism" في فلسفة العلم.
ولحل تلك الإشكالية قدم الواقعيون تصورات جديدة، منها طرح تصورات عن إمكانية الاقتراب التدريجي من الواقع، والارتكاز على ما يعرف بحسنا الواقعي المشترك بالوجود الحقيقي للكيانات المادية . ولكن هذه التصورات الجديدة قابلتها مشكلات عديدة من قبل الفلاسفة الذين يرون أنه من غير الممكن معرفة الواقع وأن ما يمكن معرفته هو تصورات امبيريقية عنه، فظهر ما يعرف بالتجريبية البنائية "Constructive Empiricism" .
وفي محاولة لحل الاختلاف ما بين الواقعية والأداتية ظهر مفهوم الواقعية البنيوية بواسطة جون وارل "John Warral". وهو مفهوم يعبر عن أن الواقعية التي تتسم بها القوانين الطبيعية هي واقعية بنيوية. وأن العلم ينتج فقط بنية للقوانين التي تحكم الظواهر وليس القوانين الفعلية الثابتة ذاتها. ولأن العلم يتقدم باستمرار فإن بنية القوانين السابقة فقط، تظل صحيحة أما مضمونها فيمكن أن يتغير بحسب التطورات العلمية الجديدة. والهدف هو الاحتفاظ بقدر من الواقعية للعلم مع الاعتراف بتقدمه المستمر وتغير قوانين الطبيعة .
ويعبر هذا التصور عن واقعية وبنيوية القوانين في مجال الفيزياء فقط. ولكننا إذا وسعنا مفهوم بنيوية قوانين الطبيعة قليلا لتشمل في إطارها البنيوي قوانين الحياة والعقل سننتج تصورنا المطروح عن قوانين الطبيعة المعتمدة على حرية الاختيار. فالمفهوم الذي نقدمه يعتمد على أن قوانين الطبيعة هي قوانين صالحة لكل مستويات الطبيعة من الناحية البنيوية فقط ولكن تطبيقها يختلف باختلاف مستوى الموجود في سلم التطور. أي أنه إضافة إلى كون مفهوم الواقعية البنيوية يعبر عن استمرار القوانين فيزيائيا مع تغير محتواها مع تقدم العلم، أي تغير رأسي في معرفتنا بالطبيعة (تغير معرفيEpistemology ). يعبر أيضا عن استمرار القوانين في المستويات غير الفيزيائية، فيصبح تغيرا رأسيا أيضا ولكنه شاملا  للمستويات الجديدة التي تنبثق في الطبيعة (تغير وجودي Ontology).
ت‌-       التناظر والسمات الكيفية في الطبيعة
يرى علماء الفيزياء أن أحد أهم السمات الكيفية لقوانين الطبيعة هي التناظر "Symmetry". فالتناظر هو سمة نلحظها باستمرار في كافة مستويات الطبيعة، فمكونات الذرة موجبة الشحنة تقابلها مكونات سالبة واللف الموجب للجسيمات يقابله اللف السالب..وهكذا. وبنفس القدر نجد التناظر في المنظومة الشمسية أو في اللولب المزدوج ل "د.ن.أ"، والنصف الايمن والنصف الايسر لأغلب الحيوانات..الخ.
والتناظر هو المبدأ الأساسي الذي قامت عليه قوانين الفيزياء المعاصرة، فبحسب دافيد جروس "David Gross" "تمثل التقدم الكبير الذي حققه إينشتين عام 1905 في أنه وضع التناظر "Symmetry" كمبدأ أول والسمة الأساسية في الطبيعة التي تفرض على قوانين الحركة الممكنة في الطبيعة، وأن مبدأ التناظر المحلي "Local Symmetry" قد فرض ديناميات الجاذبية المرتبطة بالزمكان "Space-time" نفسه..وفي النصف الأخير من القرن العشرين كان التناظر التصور الأكثر سيطرة عند فحص وتكوين القوانين الأساسية للفيزياء. واليوم هو يعمل كمبدأ مرشد للبحث لمزيد من للتوحيد والتقدم في الفيزياء" .
وظاهرة التناظر تنطبق على القوانين ذاتها، فالعديد من الصيغ الرياضية تنطبق على ظواهر طبيعية مختلفة اختلافا تاما ومنتمية إلى مجالات علمية متباينة. من ذلك مثلا تطبيقات معادلات لابلاس على قوانين انتقال الطاقة بأشكالها المختلفة. أو تطبيقات قوانين الحركة العشوائية على المستوى دون الذري وعلى المجتمعات الإنسانية على حد سواء. لذلك من الطبيعي أن تعتمد تصوراتنا لفهم قوانين الطبيعة على توقعنا لظاهرة التناظر، سواء في الكيانات التي تنتجها أو في صيغ القوانين نفسها.
وإذا تأملنا التصور الذي نقدمه عن قوانين الطبيعة سنجد أنه يرتكز بشكل أساسي على مبدأ التناظر في الطبيعة. فهو لا يقصر التناظر على الطبيعة الفيزيائية للمواد غير الحية وإنما هو يجعل التناظر في قوانين الطبيعة تناظرا شاملا للوجود ككل بما في ذلك المواد غير الحية والمواد الحية والإنسان.
فإذا كان مبدأ التناظر هو الذي أدى أو فرض مبدأ النسبية والذي ظل فترة طويلة محل شك من المجتمع العلمي نظرا لخروجه على التصورات العلمية القائمة أوائل القرن الماضي. ثم فرض بعد ذلك تصورات جديدة غير عادية بالنسبة لنظرية ميكانيكا الكم بخصوص طبيعة الأجسام دون الذرية ولم تثبت بعد، كما في نظرية التناظر الفائق، ونظرية الأوتار، والأبعاد الإضافية للكون..الخ. إذا كان ذلك فيكون من المفهوم أيضا أن يؤدي مبدأ التناظر إلى ظهور هذا التصور غير المعتاد الذي نقدمه، والمتمثل في قابلية تطبيق القوانين الطبيعية المادية بشكل كيفي على كافة مستويات الوجود. ويكون ذلك بمثابة أوسع تطبيق لمبدأ التناظر في الفكر المعاصر سواء الفلسفي أو العلمي.
1.        القوانين السيكوفيزيائية والقوانين الميكانيكية
والسؤال الآن هو كيف يمكن أن تنشأ قوانين تحكم الطبيعة في ظل المبدأ الذي طرحناه في هذا البحث، وهو حرية الاختيار. ذلك أنه إذا كان الاختيار حرا، فإن معنى ذلك أن الاختيار نابع عن توجهات أو إرادة ذاتية. وهو الأمر الذي يتناقض مع كون السلوك المرصود نابع من قانون ثابت له شروطه الموضوعية التي تفرض نفسها، بموجب القانون، على الكيانات الفردية. لذلك من الضروري بحث العلاقة بين مبدأ حرية الاختيار وبين القوانين الميكانيكية الموضوعية التي ثبت صحتها في مستوى الواقع الطبيعي.
أ- الحرية والحتمية
التناقض بين الحرية والحتمية، والذي هو أحد المشكلات الفلسفية القائمة حاليا، والذي هو أيضا يمثل أحد العوائق أمام مبدأ حرية الاختيار. هذا التناقض يمكن حله من خلال التعريف الذي طرحناه في القسم السابق من هذا البحث لمفهوم "حرية الاختيار". فقد بينا أن هذا المفهوم لا يعني الحرية المطلقة، وإنما يعني بدلا من ذلك أن الاختيار الحر هو مقيد بنوعين من الحدود. حدود مرتبطة بمستويات الوجود، وحدود مرتبطة بالظروف البيئية.
وبذلك يكون التعريف الدقيق لهذا المفهوم هو أنه يعبر عن "درجات" من حرية الاختيار، واختصارا "درجات الحرية". ومفهوم "درجات الحرية"، كما يتضح من اسمه، يعبر عن أنه لكل حالة معينة لجسم معين درجة معينة من الحرية ودرجة مقابلة لها من التحديد. أي أنه سيكون حرا في الاختيار ما بين بدائل معينة تتحدد سلفا بموجب طبيعة الموجود ذاته وبموجب الظروف البيئية في الحالة المعينة محل الاختيار. ولأن هناك طيف واسع لدرجات الوجود، وطيف واسع للظروف البيئية، فإن النتيجة هي أن تتسع درجات الحرية لتشمل طيفا من الدرجات يبدأ من الدرجة المحدودة التي تقترب من الحتمية إلى الدرجات غير المحدودة التي تقترب من الحرية المطلقة. وبهذا المعنى يكون مفهوم "درجات الحرية" مفهوما أكثر عمومية يضم في داخله مفهوم التحديد أو الحتمية، ويضم في داخله مفهوم الحركة الاحتمالية العشوائية، والحركة غير المحددة اي الحرية المطلقة .
ب- درجات الحرية
طبقا لهذا المفهوم، أي "درجات الحرية"، تصبح الكيانات المادية في المستوى الادنى في سلم الوجود، اي الموجودات غير الحية، في الدرجة الأدنى من درجات الحرية. فهي من ناحية تتسم بقدرة على الاختيار محدودة، إذا قورنت بالمستويات الأعلى، وكذلك تتسم في احوال كثيرة بدرجة عالية من التحديد بالنسبة لظروف التطبيق. فتكون النتيجة هي أن الموجودات المادية في ظروف التطبيق العادية المحددة مسبقا قابلة للتحديد بدرجة كبيرة تقترب من الحتمية التامة. ويكون تطبيق القوانين الميكانيكة في هذه الحالة صحيحا، ويكون من الممكن التنبؤ بالسلوك المستقبلي للنظام الميكانيكي، باعتباره معبرا عن درجة دنيا من درجات الحرية.
فإذا تناولنا المستوى الحيوي سنجد أن درجة الحرية اصبحت اكبر، ولكنها اكتسبت صفات معينة ثابتة تقريبا يمكن بناء على معرفتها، التنبؤ التقريبي بسلوك المنظومة الحيوية. والأمر ذاته بالنسبة للمستوى العقلي الإنساني، ولكن بدرجة حرية اكبر كثيرأ. فالإنسان رغم درجة الحرية الكبيرة التي يتمتع بها إلا أن هذه الحرية تتشكل في النهاية في صورة ملامح ثابتة لشخصية الإنسان.
والنتيجة هي أن مفهوم حرية الاختيار ومفهوم درجات الحرية المرتبط به لا يفترض اختلافا أساسيا بين مستويات المادة غير الحية والمادة الحية والإنسان. وإنما بدلا من ذلك يضع تصورا عاما بنيويا يسمح بوضع صورة عامة للقوانين الطبيعية تقبل التطبيق بنيويا على كل مستويات الوجود، بما فيها الإنسان. ولكن في نفس الوقت تصنع فروقا أساسية عند التطبيق المحدد لهذه القوانين البنيوية عند مستويات الوجود المختلفة. وانطلاقا من ذلك يمكن اعتبار قوانين نيوتن الميكانيكية بمثابة تطبيقا محدودا لمفهوم درجات الحرية، وأن هدفنا الصحيح هو اكتشاف القوانين البنيوية الطبيعية التي تستطيع أن تضع قوانين نيوتن في إطارها باعتبارها حالة خاصة منها.
ث‌-       قوانين الفيزياء وقوانين الإنسان
في هذا الإطار وفي إطار بنيوية قوانين الطبيعة والتناظرات الموجودة في الطبيعة إذا لا حظنا السلوك الإنساني نجد أنه يتبع قوانين نيوتن الميكانيكية ولكن بشكل يتميز بدرجة حرية أكبر بكثير من الموجودات المادية غير الحية.
فالقانون الأول يقول بأنه لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومخالف له في الاتجاه. وهذا ينطبق على الإنسان بكل وضوح، ولكن باعتبار أن الفعل ورد الفعل هي أفعال نفسية وليست مادية. والقانون الثاني لنيوتن يتعلق بالجاذبية المادية وارتباط قوتها بالمسافة بين الأجسام. وهذا ايضا له مقابل نفسي عند الإنسان، فالجاذبية النفسية عند الإنسان موجودة سواء في الجاذبية الجنسية أو الجاذبية العاطفية أو الجاذبية الشخصية أو الجاذبية الناتجة عن القدرات الخاصة، الفنية مثلا أو الزعامة..الخ. وبقدر الاقتراب النفسي للاشخاص من بعضهم البعض بقدر ازدياد قوة الجاذبية. والقانون الثالث هو قانون القصور الذاتي، والذي يفيد بأن الجسم يسير بنفس المعدل  وفي نفس الاتجاه ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي. وهذا ايضا ينطبق على الإنسان بصورة كيفية. فالحالة النفسية للإنسان لا تتغير إلا بتأثير مؤثر خارجي. ونحن نطبق ذلك بصورة يومية تقريبا، فإذا رأينا تغيرا في مزاج أحد الأصدقاء أو الأقرباء الذين نعرف شخصياتهم الحقيقية توقعنا أن هناك مؤثر خارجي. وبقدر التغير الذي نراه بقدر توقعنا لحجم هذا المؤثر.
ويمكننا الاسترسال في بيان كيف أن جميع القوانين المشتقة من قوانين نيوتن الميكانيكية، كمثل قوانين السوائل والغازات، والعديد من الأنظمة المعقدة،لها مثيل مقابل لها في القوانين الإنسانية. فمثلا، تسري قوانين السوائل على المجتمعات الإنسانية، باعتبارها مكونة من جزيئات لها أعداد كبيرة هي الأفراد. فالمجتمع يحفل بالتيارات التي تشكله، وبقدر التضييق على هذه التيارات بقدر ازدياد الضغط المجتمعي، كما في قوانين السوائل. كذلك يمكن أن تصل الحالة في المجتمع إلى حد الغليان، مثلما هو الحال بالنسبة للسوائل. فإذا زادت الضغوط عن حد معين "انفجر" المجتمع وأصبح في حالة ثورة..وهكذا.
وانطلاقا من هذا التناظر بين القوانين الميكانيكية النيوتونية وبين القوانين النفسية الإنسانية يمكننا أن نتوقع أن باقي القوانين المادية غير النويوتونية قابلة للتطبيق ايضا. فقوانين النسبية العامة قابلة للتطبيق نفسيا ايضا، فالزمن النفسي نسبي ايضا، فهو يمكن أن يمضي سريعا في حالات معينة، وأن يمضي بطيئا في حالات أخرى. كذلك المسافات تبدو أحيانا قصيرة وأحيانا أخرى طويلة..وهكذا.
كذلك يمكن توقع أن قوانين ميكانيكا الكم سوف تكون قابلة للتطبيق على النفس الإنسانية. فالحركة الاحتمالية للجسيمات دون الذرية هي أكثر شبها بالسلوك الإنساني من سلوك الأجسام المادية الطبيعية. فالإنسان يتصرف بشكل لا يمكن توقعه بالنسبة للتصرف في حالة محددة. ولكن على المدى الطويل يمكن القول بأن تصرفاته سوف يغلب عليها سلوك معين. ولذلك يمكن استخدام الإحصاء لوضع قوانين لسلوك البشر، إما على مدى زمني طويل نسبيا، أو على أعداد كبيرة من البشر متماثلة في الظروف النفسية. تماما مثلما يتم استخدام التوقعات الإحصائية أو الاحتمالية لوضع قوانين للجسيمات دون الذرية، إما على مدى زمني طويل نسبيا، أو لعدد كبير من الأجسام المتماثلة. ولكن كل ذلك لا يعني أن نفس الصيغة لقانون شرودنجر أو هايزنبرج سوف تنطبق على الإنسان، وإنما ما هو واضح أنه قابل للتماثل هو المبدأ الإحتمالي الإحصائي ذاته.
والنتيجة التي نستخلصها من هذا التحليل هي أن القوانين المبنية على أساس حرية الاختيار تمثل صورة بنيوية عامة بالنسبة لقوانين الطبيعة. وأن القوانين الحتمية الميكانيكية والقوانين الاحتمالية الكمية يمثلان حالتان خاصتان من الحالة العامة، وهي حرية الاختيار.

Post a Comment

Previous Post Next Post