التدابير الاحترازية بديل يحل محل العقوبة - أو يشاركها في بعض الأحيان

     ظلت العقوبة لسنوات طويلة تمثل السلاح الوحيد في يد المجتمع ضد الجريمة. غير أن هذا السلاح قد أخفق في مواطن عدة عن تحقيق الهدف المنشود المتمثل في مكافحة الظواهر الإجرامية المختلفة ، الأمر الذي استوجب البحث عن بديل يحل محل العقوبة - أو يشاركها في بعض الأحيان - ويكون له من الفاعلية التي تمكن من تحقيق أغراض الجزاء الجنائي المتنوعة. وعلى هذا ، وفي ضوء الرغبة في تنوع أساليب مكافحة الجريمة، ظهرت فكرة التدابير الاحترازية Mesures de sûreté كصورة جديدة من صور الجزاء الجنائي[1].
وهذا النمط الجديد من الجزاءات يثير في الواقع بعض التساؤلات المتعلقة ببيان ماهيته وكيفية تطوره ، وكذلك أقسامه وأغراضه ، ثم بيان خصائصه وشروط تطبيقه ، وأخيراً إظهار الإشكاليات المتصلة بعلاقة التدابير بالعقوبة الجنائية. ولكل من هذه التساؤلات سوف نخصص مبحثاً.

ماهية التدابير الاحترازية وتطورها ومبرراتها


1-                   أولاً : ماهية التدابير الاحترازية :

     التدابير الجنائية عموماً مجموعة من الإجراءات القهرية التي يرصدها المجتمع من أجل مواجهة الخطورة الإجرامية[2] الكامنة في الشخص والتي تنبئ عن احتمال ارتكاب الجريمة في المستقبل. ويتضح من هذا التعريف أن التدابير ليست إلا وسائل الغرض منها حماية ووقاية المجتمع ضد الخطر المستقبلي للمجرم ، وذلك بقطع الطريق بينه وبين الوسائل الدافعة أو التي تسهل له ارتكاب الجريمة - مثال ذلك مصادرة السلاح أو إغلاق المحل أو حظر الإقامة ...الخ - أو عن طريق إعداده لحياة شريفة في المجتمع أو علاجه من مرض عقلي أو نفسي يؤثر في سلوكه ، كإلحاق المجرم بعمل ما من الأعمال أو وضعه تحت مراقبة الشرطة أو إيداعه في إحدى المصحات النفسية أو العقلية.

والتدبير وفق هذا التعريف لا يتوافر فيه معنى الألم المتوافر في العقوبة ، أي أنه يتجرد من المضمون الأخلاقي الذي يعطي للعقوبة أهم خصائصها. فالغرض النفعي ، المتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد خطورة المجرم لمنع ارتكاب لجرائم جديدة ، هو الغرض الأساسي للتدابير[3].

كذلك يتضح أن التدابير إجراءات قسرية توقع جبراً على من توافرت فيه الخطورة الإجرامية. ومن ثم فهي لا تؤسس على فكرة المسئولية الجنائية وإنما على أساس الخطورة المستقبلية للمجرم. لذا فمن المتصور توقيعها قبل من لم توافر فيه شروط المسئولية الجنائية ، كالمجنون وناقص الأهلية وصغير السن ...الخ.

وارتباط التدابير بالخطورة الإجرامية إنما يعني توقيع هذه التدابير على من وقعت منه بالفعل جريمة سابقة تكشف عن تلك الخطورة. ومن هنا تتميز التدابير الاحترازية عن إجراءات الوقاية التي قد يتخذها المجتمع قبل وقوع الجريمة ، وبهدف منع وقوعها بداءةً. تلك التدابير الأخيرة - التي يطلق عليها البعض "تدابير التحصين الاجتماعي ضد الإجرام" - توصف بأنها تدابير ذات طبيعة اجتماعية عاطلة من أي صبغة جنائية بهدف تضيق فرص الإجرام ، مثالها إنارة الطرق وتحسين مستوى المعيشة والاهتمام بالتعليم والحد من البطالة...الخ[4].


[1] حول التدابير الاحترازية بصفة عامة ، د. مجدي عقلان ، النظرية العامة للتدابير الاحترازية ، رسالة دكتوراه ، عين شمس ، 1983 ، د. محمود قرني ، النظرية العامة للتدابير الاحترازية ، رسالة دكتوراه ، عين شمس ، 1989.
[2] حول تعريف الخطورة الإجرامية والتدابير راجع ، د. يسر أنور علي و د. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص366 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، المرجع السابق ، ص105 ، و د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص341 د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص 119 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص490 ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص104.
R. Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 77 ; B. Bouloc, op. cit., p. 34 et s, R. Merle et A. Vitu, op. cit., p. 744 et s.


[3] R. Schmelck, La distinction de la peine et de la mesure de sûreté, Mélanges Patin, Cujas, 1965, p. 179.
[4] د. علي راشد ، المرجع السابق ، ص67.

Post a Comment

Previous Post Next Post