كيفية المحاسبة وما يعين عليها :
وأما كيف يستخدم هذا الأسلوب في التربية الذاتية وما هي طريقة محاسبة النفس فهذا أمر ليس باليسير ويستدعي مداومة الترويض والتهذيب للنفس كيما تصل إلى رضى خالقها ، يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ :  وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب .. ثم تقايس بين الحسنات والسيئات فتعلم بهذه المقايسة : أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة ، وهذه المقايسة الثانية مقايسة بين أفعالك وما منك خاصة(2)
وفي وصف المؤمن المحاسب لنفسه أورد الحافظ ابن أبي الدنيا بسنده عن الحسن قوله :
إن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع نفسه فيقول : هيهات ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا ، ما أردت إلى هذا وما لي ولهذا ، والله ما أعذر بهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله...إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله (1)
ومن المحاسبة أن يقرر المرء نفسه بذنوبه ومعاصيه لكي ترجع وتؤوب ، يقول مالك بن دينار : رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدا (2)
ولنستمع إلى المحاسبي وهو يحدث نفسه محاسبا ومعاتبا :
ويحك إن الدنيا دار نجاة الآخرة .. إن الجامعين بدلوا الأحزان في الدنيا فورثوها في الآخرة دوام السرور ، ويحك فلا تدعي معاملة مولاك في دار العمل فتخسري الدنيا والآخرة .. ، ويحك يا نفس أين تلاوة القرآن ؟ وأين معاني الآثار ؟ وأين الشكر لمن لا تعرفين منه إلا الإحسان ؟ رضيت بأحوال الجاهلين ومنازل الغافلين وأعمال الفاسقين ، ويحك يا نفس أليس قد انقطع عنك كل لذة وزالت عنك كل رفاهية وانقضت الساعات والأيام وما كان فيها من التخليط والذنوب وبقيت عليك الأوزار هذا ما قد قضى وذهب .. وبقي السؤال ، فهكذا تستقبلين أيامك .. ما يكون منها وما يبقى عليك من التبعات فتحولي عما ينقضي ويبقى سوء عاقبته ...(3)
إن مما يحفز المسلم لمحاسبة نفسه تيقنه أن الله عز وجل يقبل التوبة من عباده في كل حين ومهما كبر الذنب أو دق ، يقول تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ]
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم  : إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها [ مسلم : 4/2113 ]
ومما يعين على المحاسبة أن يكون المرء صادقا في محاسبته لنفسه ، وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاث أسس هي : الاستنارة بنور الحكمة وسوء الظن بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة ، فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل والهدى والضلال ، وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم ، وأما سوء الظن بالنفس حتى لا يمنع من كمال التفتيش والتنقيب عن المساوئ والعيوب ، وأما تمييز النعمة من الفتنة لأنه كم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر ، مفتون بثناء الجهال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (1)


(2) تهذيب مدارج السالكين : مرجع سابق ، ص 115
(1) محاسبة النفس : مرجع سابق ، ص 36
(2) إحياء علوم الدين : مرجع سابق ، ص 4/405
(3) معاقبة النفس : مرجع سابق ، ص 56 ـ 60
(1) تهذيب مدارج السالكين : مرجع سابق ، ص 116

Post a Comment

Previous Post Next Post