تحقيق التقوى :
    إن تحقيق هذا الأسلوب العظيم – التقوى – يتطلب الاتصاف بخصال المتقين التي وردت في الكتاب والسنة وهي كثيرة جدا ، يذكر الباحث طرفا منها .
قال تعالى : { آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }
[ البقرة : 1-5 ]
    فمن أخص خصائصهم الإيمان بالغيب  لأنه يجعل من ضمير الإنسان رقيبا ذاتيا يحصي عليه جميع حركاته وسكناته وتصرفاته . يقول أحد العلماء – رحمه الله - : فالمؤمن بالغيب على الحقيقة هو الذي يستشعر دائما مشاهد يوم القيامة . وكل ما يرى في الدنيا من صنوف اللذات والنعيم يذكر به نعيم الجنة الذي هو خير منه وأبقى فيبادر إلى الأعمال الصالحة ويكون إنسانا صالحا ، وكل ما يرى في دنيا من أصناف الشرور وحر النار يذكر به عذاب جهنم وشدة حرها فيرتدع عن الشهوات ويكبح نفسه عن جماحها ولا يطلق لها أنانيتها من أنواع الطمع والشره في مال أو عرض أو أي نوع من أنواع التسلط والاغتصاب ... (1) .
     ومن صفاتهم أيضا أنهم أوابون رجاعون إلى الحق إذا ما أخطأوا أو ضلوا ، قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] وكذا من صفاتهم ترك الشبهات وما ترجح بين الحلال والحرام أو خفي حكمه لقوله صلى الله عليه وسلم : ... فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ... [ البخاري : 341 ] ويقول أيضا : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس [ الترمذي : 4/547 ، وقال : حسن غريب ] .
     يقول الحسن البصري : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه (2) .
     فترك الشبهات منزلة عظيمة لا يبلغها إلا المتقون ولا تأتي إلا بمجاهدة النفس ومغالبتها تحقيقا لأوامر الشرع .
     يقول محمد المصري : وهكذا يظل المؤمن في علاج لنفسه وجهاد لرغباته وأهوائه حتى ينتهي به الأمر إلى أن تصبح التقوى مغروسة في نفسه وتصبح خلقا من أخلاقه وسجية من سجاياه ، وهنا يدرك ثمرة التقوى في أيامه كلها ، وهنا يرهف إحساسه ويسمو وجدانه فيصبح سريع الإدراك لمواطن الخير ولمواطن الشر ، خبيرا كل الخبرة بالتمييز بينهما ، ويصبح طبعه الخير وهواه مع الخير وكراهيته للشر ونفوره منه ويكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار (3)


(1)  صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم : عبد الرحمن بن محمد الدوسري . مكتبة دار الأرقم ، الكويت ، 1406 هـ ، 2/5
(2)  الوافي في شرح الأربعين النووية : مصطفى البغا ومحيي الدين مستو . دمشق ، دار الإمام البخاري للنشر والتوزيع ، 1400 هـ ، ص 34 .
(3)  من هدي سورة الأنفال : مرجع سابق ، ص  7 .

Post a Comment

Previous Post Next Post