المنطقة المسماة حالياً سورية، في عصور ما قبل التاريخ، من الصعب جداً وضع تحديد دقيق لها. لأن أصل تسمية سورية والمجال الجيوبوليتيكي والجيو تاريخي لها قد تغير عبر آلاف السنين حيث ارتبط اسم سورية باسم أقدم هو أشور Assyrie، إنها التسمية المختصرة اليونانية كما خلفها هيرودوت للتاريخ 484 - 420 ق. م، ومنذ القدم عبر هذا الاسم عن مجال جغراسي معين يشار إليه بتسميات شتى منها سورية الطبيعية، سورية الكاملة، سورية الكبرى، أرض العموريين، بلاد أرام، بلاد الشام أو بر الشام([1]).
إن المنطقة المقصودة هنا تقع بشكل عام ضمن هذا الإطار، مع  التركيز بشكل خاص على المساحة التي تشغلها سورية الحالية. إن هذه المنطقة الممتدة بين القارات القديمة الثلاث، تشكل وحدة أساسية في بيئتها الطبيعية تلتقي وتتقاطع مع بيئات جغرافية متنوعة، سمحت بوجود وحياة وتطور أنواع مختلفة من الكائنات الحية النباتية والحيوانية عبر الزمن.
تعرضت أراضي سورية كغيرها من مناطق العالم إلى تناوب طغيان مياه البحر وانحسارها في فترات محددة من الزمن. ففي الفترة الممتدة من الحقب الجيولوجي الأول وحتى أواخر الزمن الثالث، حدث أن طغت مياه البحر عدة مرات على كامل أجزاء سورية أو معظمها، تخللها فترات انحسار لهذه المياه، إلى أن انحسرت نهائياً في فترة الاوليغوسين، ومنذ تلك الفترة لم تشهد سورية الداخلية حتى طوروس وما وراء الفرات إطلاقاً عودة البحر([2]).
وخلال هذا الزمن كانت هذه المنطقة تتعرض إلى حركات تكتونية التوائية وصدعية، وإلى حدوث ثورات بركانية وهزات أرضية في أماكن متفرقة من سورية. وبشكل عام فإن الصخور الرسوبية ذات الميول الضعيفة تغطي معظم سورية، وهي على الغالب من صخور الحقبين الثاني والثالث، ويدخل الحجر الكلسي في تركيبها بنسبة عالية، وتسود صخور الجوراسي والكريتاسي وإلى حدٍ ما الباليوجين في الجبال والتلال والهضاب العالية، بينما تشاهد صخور النيوجين والحقب الرابع في الأراضي الواطئة والمنخفضات([3]).
وما يهمنا من هذا العرض التأكيد على تأثير التغيرات المناخية والأحداث الجيولوجية في المحيط الحيوي لهذه المنطقة، وفي ظهور الكائنات الحية المختلفة النباتية والحيوانية وتنوع وانتشارها، بما في ذلك الإنسان، الذي ظهر في فترة موغلة في القدم من الحقب الرابع (لم يتفق عليها بشكل قطعي حتى الآن) تتراوح بين 1.5 - 2.5 مليون سنة.
إن عمر الإنسان غير محدد بدقة حتى الآن، وبين الفترة والأخرى يظهر اكتشاف جديد أو بحث جديد يزيد في عمر الإنسان مئات وآلاف وأحياناً ملايين السنين، فقد أرجعت إحدى الدراسات عمر الإنسان إلى نحو أربعة ملايين سنة([4]).
وسوف أحاول توضيح التغيرات البيئية التي تعرضت لها المنطقة في  مرحلة عصور ما قبل التاريخ، وأسباب هذه التغيرات، ودور الإنسان في ذلك، مع التوضيح بأن أهمية الحديث عن هذا الموضوع تتجلى في الربط بين تطور حياة الإنسان في هذه المنطقة، وبين التغيرات التي حدثت في الوسط المحيط، وزمان ومكان حدوث هذه التغيرات البيئية.
وهذه المرحلة  تقسم إلى ثلاثة عصور هي:
1- العصر الحجري القديم: ويمتد بين 3 مليون سنة إلى 12 ألف سنة خلت ويقسم إلى:
 أ  -  العصر الحجري القديم الأدنى (الباليوليت الأدنى) ويمتد من 3 مليون سنة وحتى 100 ألف سنة.
 ب - العصر الحجري القديم الأوسط (الباليوليت الأوسط) ويمتد من 100 ألف إلى 40 ألف سنة خلت.
 ج  - العصر الحجري القديم الأعلى (الباليوليت الأعلى) ويمتد بين 40 إلى 12 ألف سنة خلت.
2- العصر الحجري الوسيط (الميزوليت)، يمتد بين 12 ألف - 8 ألف سنة خلت.
3- العصر الحجري الحديث (النيوليت) يمتد بين 8000 - حتى ظهور الكتابة في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. ويمكن إيجاز هذه التأثيرات ونتائجها بالشكل التالي(§).
في العصر الحجري القديم الأدنى، ظهر إنسان جاوة  ويسمى بالإنسان القرد أو المنتصب القامة، وقد اكتشفت أثار هذا الإنسان في الكثير من مناطق الوطن العربي، خاصة في فلسطين وسورية، حيث اكتشفت أثاره في مواقع مختلفة في سورية منها ست مرخو وخطاب والرستن والقرماشي ويبرود والكوم وغيرها.
وقد استخدم هذا الإنسان النار مبكراً، في التدفئة والإنارة وفي طبخ الأطعمة النباتية واللحوم النيئة، وفي حماية نفسه والدفاع عن حياته في وجه الحيوانات المفترسة، وقد عثر على أحد الدلائل الأولى لهذه النار في سورية، كما أن هذا الإنسان طور قدرته على الصيد فاصطاد حيوانات كبيرة ومتوسطة الحجم كالفيل، ووحيد القرن، وفرس الماء، والدب والحصان([5]).
وفي هذه الفترة فإنه من العسير التفريق بين النار الطبيعية، وبين النار المفتعلة التي كان الإنسان يوقدها، ومن الواضح أن النار أصبحت يوماً بعد يوم تستخدم بشكل مفتعل وإرادي، وليس بشكل تلقائي أو طبيعي، وهذا يعني زيادة قدرات وإمكانيات الإنسان في التأثير السلبي على عناصر البيئة، وخاصة على الغابات، واعتماد الإنسان على أكل اللحوم المطبوخة والمشوية بعد أن كانت تؤكل نيئة، مما أدى في النتيجة إلى زيادة وتيرة الصيد من حيث الكم والنوع.
وبالنسبة إلى تأثير الإنسان في البيئة السورية في العصر الحجري القديم الأوسط، فقد عثر على آثار هذا الإنسان في مواقع كثيرة في بلاد الشام  في يبرود وبالقرب من تدمر وفي مغارات جبل سمعان وغيرها، وتدل المعطيات الأثرية أن سكان هذه المناطق أشعلوا النار وقاموا بصيد الحيوانات مثل الحصان البري ووحيد القرن والدب والوعل والغزال، وأنهم جمعوا الثمار والنباتات، مما يؤكد تزايد التأثير البشري المفتعل في البيئة، والقضاء على المزيد من الغابات والكائنات الحية بصيدها أو حرقها.
وفي العصر الحجري القديم الأعلى، وجدت آثار الإنسان العاقل العائدة لهذا العصر في مواقع مختلفة منها، يبرود  والكوم وتدمر، والتي تدل على أن مجتمعات هذا العصر بقيت تعتمد على الالتقاط والصيد، وأن هذا النشاط قد مورس بتخصيص أكبر وإدراك أوسع للبيئة وخيراتها، ونشاطات الإنسان في هذه الفترة كانت ذات تأثير كبير ومستمر في المحيط الحيوي، وأدت إلى انقراض الكثير من الكائنات الحية، كما شهدت هذه الفترة حدوث تغيرات مناخية وبيئية مختلفة، مما أثر في نشاط الإنسان وتطوره، وربما عدم ازدهار حضارته في هذه المنطقة من العالم.
ويعتقد أنه لاحقاً وفي العصر الحجري الأوسط، خاصة منذ الألف العاشر قبل الميلاد أصبحت بيئة بلاد الشام قريبة من واقعها الحالي، وقد تحسنت الظروف البيئية، وتميزت هذه الفترة بتطور وسائل الصيد البري والبحري والعمران وفنونها، وتزايد أعداد السكان، واعتماد غذائهم على صيد الغزلان، والثيران، والأيائل، والخنازير، والطيور، والتقاط النباتات البرية، وخاصة القمح والشعير، وتدل الدراسات أن سورية كانت في العصور القديمة غنية جداً بالتنوع الحيوي، ودلت التنقيبات الأثرية في موقع تل أبي هريرة على ضفاف الفرات أنه كان يقطن هذا المكان منذ 11 ألف سنة خلت مجموعة من الصيادين الجمّاعين، وحدث صيد مكثف للغزلان، أثناء هجرتها للشمال في بداية الصيف، وهذا الصيد  استمر عبر القرون العشرة التالية، ولم يتوقف إلا عندما استنزفت قطعان الغزلان بشكل كامل([6]).
إجمالي هذه الأحداث التي جرت في هذه الفترة من زيادة عدد السكان وتطورهم واستقرارهم النسبي، وتطور الأدوات التي كانوا يستخدمونها، وانتقالهم من حياة الصيد والجمع إلى حياة الزراعة وتأهيل الحيوان، جميع هذه الأحداث والتغيرات أثرت في البيئة، وغيرت من معالمها، وقضت على الكثير من الكائنات الحية، وأسهمت في تبسيط النظام البيئي.
وفي فترة ما يسمى بالثورة النيوليتية في العصر الحجري الحديث، حيث وصفت التغيرات التي حدثت في هذا العصر بالثورة التكنولوجية والفكرية، وهذه التغيرات المتعلقة بطبيعة الحياة السائدة خاصة الاستقرار الدائم، وصنع الأدوات ذات مؤشرات بيئية، وما يهمّنا أكثر من غيره في هذا المجال، التأكيد على حدوث صيد جائر شمل معظم الحيوانات المتوافرة في هذه البيئة، كما تدل الآثار والمعطيات التي تم الحصول عليها من المواقع الأثرية المكتشفة، وصيد الغزلان  لم يكن مقتصراً على منطقة أبي هريرة وإنما شمل معظم مناطق آسيا الأمامية مثل أريحا، حيث زرع سكانها القمح والشعير وقاموا بتربية الماعز والكلاب وربما القطط أيضاً واعتمدوا في طعامهم على لحوم الغزلان([7]).
لقد ساعد تحسن الظروف الجغرافية، وخصوبة التربة، وعوامل أخرى كثيرة على انتقال إنسان هذه المنطقة، إلى ممارسة الزراعة، وكانت في الفترة الأولى مشتركة مع الصيد، ولاحقاً تم التحول إلى تأهيل الحيوانات، ثم انتقل السكان إلى الزراعة المروية وشق قنوات الري لجر المياه والاستفادة منها، ومما لاشك فيه أن هذا التحول التاريخي كان له تأثيرات بيئية هامة، منها ما يتعلق بتغيير شكل سطح الأرض، ومنها ما يتعلق بقطع الغابات وتحويلها إلى أراض زراعية أو أماكن عمرانية وغير ذلك.
في نهاية الألف التاسع قبل الميلاد دخلت بلاد الشام في عصر الزراعة الحقيقي، وانتقلت من الصيد والجمع إلى الزراعة وتدجين الحيوانات. وتشير دلائل التنقيبات الأثرية أن بلاد الشام عرفت الزراعة منذ الألف الثامن قبل الميلاد. وفيما يتعلق بالاستغلال الحيواني، يتضح بأن الصيد كان النشاط الأساسي لتأمين الغذاء اللحمي، ومن أهم الحيوانات المصطادة نذكر الثيران والغزلان والخنازير والخيليات، إضافة إلى السلاحف والعصافير، أما فيما يتعلق بالاستغلال النباتي فتدل المعطيات على وجود غطاء نباتي أكثر أهمية من الوقت الحاضر([8]).
ويعتقد أن الصيد الجائر، ونقص الموارد، وإفقار البيئة أدى إلى الانتقال من الصيد والجمع إلى الزراعة وجني المحاصيل والرعي، وإلى نشوء علاقات جديدة بين الإنسان والوسط المحيط، جعلت من الحيوانات المفترسة مصدر خطر تهدد الحيوانات الأهلية، مما دفع الإنسان إلى القضاء عليها، وهذا أدى إلى زيادة تهديد البيئة واختلال توازنها.
وأخيرا يمكن القول: إن جميع نشاطات الإنسان وأعماله واكتشافاته، مكنت الإنسان من تحسين سيطرته على البيئة، هذه السيطرة التي اشتدت مع الزمن، كانت سيطرة ضعيفة ومقبولة في البداية، تحولت شيئاً فشيئاً إلى محكمة وشديدة أضرت بالكثير من الكائنات الحية و أخلت بالتوازن والاستقرار الإيكولوجي.



(1) مصطفى طلاس، سورية الطبيعية، دراسة جيوبوليتيكية جيو تاريخية، دار طلاس للدراسات والترجمة وانشر، دمشق -2001 .[1]
(1) إتيان دوفوماس، بنية ومورفولوجية الشرق الأدنى، ترجمة د . عبد الرحمن حميدة، جامعة دمشق 1984 - 1985 م، ص 102
(2) عادل عبد السلام، جغرافية سورية العامة، جامعة دمشق، 1989- 1990، ص 36. 
(3) م . ليكي، أ، وولكر : مستحاثات بشرية من أفريقيا ترجع إلى نحو أربعة مليين سنة، مجلة العلوم الامريكية المترجمة  المجلد   13  العدد 11، تشرين الثاني 1997 .
(§)  للمزيد من المعلومات عن تأثير الإنسان في البيئة السورية في العصور القديمة، يمكن الرجوع إلى بحث المؤلف، المنشور في مجلة دراسات تاريخية، جامعة دمشق، العددان 93 - 94 آذار -  حزيران 2006 م .
(1) سلطان محيسن، بلاد الشام في عصور ما قبل التاريخ، الصيادون الأوائل، دار الأبجدية للنشر، دمشق 1989، ص 35 .[5]
(1) ليك. أ . ج، كونوي . ب .  ر : صيد الغزلان في العصر الحجري في سورية، مجلة العلوم الأمريكية المترجمة، المجلد 4، العدد 3، الكويت  1988، ص 66 .
(1) أحمد داود، تاريخ سورية الحضاري، مصدر سابق، ص 32 .
(1) ميغيل موليست :  العصر الحجري في الألف التاسع والثامن في شمال سورية، نتائج التنقيبات في تل حالولة (وادي الفرات، سورية )، تعريب : بسام جاموس وعادلة طالبة، مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية،تصدر عن وزارة الثقافة، دمشق 1999، العدد 43، ص 256 .

Post a Comment

Previous Post Next Post