لابد لطالب
التزكية أن يحلي نفسه بالصبر لينال مراتب الكمال ، ومن لم يتعود الصبر فليصبر نفسه
وليرغمها على ذلك . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
واتقوا الله لعلكم تفلحون } [ آل عمران : 200 ] . يقول عليه الصلاة والسلام : ...
وإنه من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله ولن تعطوا
عطاء خير وأوسع من الصبر . [ البخاري : 4/186 ]
ويقول صلى الله
عليه وسلم : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر
يوقعه [ حسنه الألباني في الصحيحة برقم 342 ] فمن يتصبر يصبره الله ويعطيه هذا
الخلق الرفيع .
والصبر في
التربية الذاتية على أنواع ، فمنه الصبر على رغبات النفس ومنه الصبر على متاعب
الحياة التربوية ومنه الصبر على معاملة الأستاذ والمربي ومنه الصبر على جفاف
المادة العلمية أحيانا .
وقد أشارت قصة
موسى مع الخضر عليهما السلام إلى أن تربية الذات لا تتحقق إلا بالصبر والتحمل حيث
قال تعالى مخبرا عنهما : { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال
إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء
الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه
ذكرا } [ الكهف 66-70 ]
فقد كان موسى
عليه السلام يتطلع إلى العلم الذي خصه الله بالخضر عليه السلام ولكن مخالفته للشرط
الذي كان بينهما وهو الصبر فوت عليه ذلك ، وهذا ما جعل رسولنا محمد صلى الله عليه
وسلم يقول : ... وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما ... [ البخاري :
3/257 ]
ومراتب الكمال في التربية والتعليم وغيرهما
لا تنال بين عشية وضحاها وإنما بالصبر واليقين والجد والاجتهاد كما قال تعالى : {
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة : 24 ]
وقال صلى الله عليه وسلم : ما رزق عبد خيرا له ولا أوسع من الصبر [ رواه الطبراني
نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 449 ]
ويقول أيضا : أفضل الإيمان الصبر والسماحة . [ رواه الديلمي
نقلا عن الألباني في الصحيحة برقم 1495 ] .
فبالصبر
واليقين تنال الإمامة في الدين ، وبتتبعنا لسيرة سلفنا الصالح نجد أنهم ما وصلوا
إلى تلك الدرجات السابقة إلا بعد التحلي بهذا الخلق الكريم .
يحكي لنا خير
الأمة وترجمان القرآن – عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – قصة كفاحه وصبره حتى
حقق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالفقه في الدين فيقول : لما قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنهم اليوم كثير . فقال : يا عجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك
وفي الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ؟ قال ابن عباس : فتركت ذلك
وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ليبلغني الحديث عن
الرجل فآتي بابه وهو قائل – أي نائم في نصف النهار – فأتوسد ردائي على بابه يسفي
الريح علي من التراب فيخرج فيراني فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما جاء بك ؟ هلا أرسلت إلي فآتيك . فأقول : لا أنا أحق أن آتيك . قال : فأسأله عن
الحديث . قال ابن عباس : فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني قد اجتمع حولي الناس
يسألوني فقال : هذا الفتى كان أعقل مني . (1)
إن في قصة ابن
عباس عبرة وعظة لكل الكسالى والساقطين على جنبات الطريق التربوي الطويل ، وفيها
درس لكل المربين والمتربين الذين يستعجلون قطف الثمار أو الذين يستنكفون عن السير
في الطريق من أوله أو يظنون استحالة الوصول إلى نهايته . ويؤكد الإمام النووي هذا
المفهوم فيقول : من لم يصبر على ذل التعلم بقي عمره في عماية الجهالة ومن صبر آل
أمره إلى عز الدنيا والآخرة ... ومنه الأثر : ذللت طالبا فعززت مطلوبا
(2) .
وقيل للإمام
الشعبي من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : ينبغي الاعتماد والسير في البلاد وصبر
كصبر الجمال وبكور كبكور الغراب . فلا عجب إذن أن يفوز أهل الصبر كما قال تعالى {
إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون } [ المؤمنون : 111 ] وقال أيضا : {
إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } [ الشورى : 33/ سبأ : 19 / إبراهيم : 5 / لقمان :
31 ] يقول ابن القيم رحمه الله (1) :
ولما كان
الإيمان نصفين : نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر
سعادتها ألا يهمل هذين الأصلين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله
يوم لقائه مع خير الفريقين ... ، والصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليه وساق
إيمانه الذي لا اعتماد إلا عليها فلا إيمان لمن لا صبر له وإن كان فإيمان قليل في
غاية الضعف وصاحبه من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة
انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة . فخير عيش
أدركه السعداء بصبرهم وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم فساروا بين جناحي الصبر
والشكر إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وبالتصبر تقوى
إرادة الإنسان فيتحرر من عبودية الجسد والمادة منطلقا بذلك إلى عبودية الله وحده
وسائرا في تحقيق إرادته في أن يكون مسلما في أفكاره وتصوراته ومعاملاته وأخلاقه .
(1) سير أعلام النبلاء : محمد أحمد عثمان الذهبي .
التحقيق والتخريج بإشراف شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة ، 1402 هـ ، ( 23 جزءا )
3/242
(2) المجموع شرح المهذب ويليه فتح العزيز شرح الوجيز
للإمام الرافض ويليه التلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني :
النووي . بيروت ، دار الفكر ، 20 مجلدا ، 1/37- 38 .
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين : ابن قيم الجوزية
. تصحيح ومراجعة نعيم زرزور . بيروت ، دار الكتب العلمية ، 1403 هـ ، ص 8 .
إرسال تعليق