تنفيذ التكليف الرباني
يستطيع المتدبر
لكتاب الله أن يدرك معنى التكليف الرباني لكل فرد بالاهتمام بالآخرين في مواضع
كثيرة من كتاب الله وخاصة في الآيات التي تخاطب جماعة المؤمنين
.
نلاحظ أولا أن
جميع أنبياء الله قد أرسلوا للاهتمام بأقوامهم وانتشالهم من عبودية الأرباب إلى
عبودية رب الأرباب . قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب
والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم
الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } [ الحديد : 25 ] . وقال تعالى : {
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [ النحل : 43 ] .
وقال تعالى
مخاطبا رسوله الكريم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وجاء الخطاب
في ذلك صريحا لنبينا محمد عليه السلام قائلا : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع
من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف : 28-30 ] . وهذا
مثل قوله تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي
ولا شفيع لعلهم يتقون * ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما
عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } [
الأنعام : 51 ، 52 ] .
قال الزجاج –
رحمه الله - (1) : إنما ذكر الذين
يخافون الحشر دون غيرهم وإن كان منذرا لجميع الخلق لأن الحجة على الخائفين الحشر
أظهر لاعترافهم بالمعاد فهم أحد رجلين : إما مسلم فينذر ليؤدي حق الله عليه في
إسلامه وإما كتابي فأهل الكتاب مجمعون على البعث .
وفي آية سورة
الأنعام روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : نزلت هذه الآية في ستة : في
وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال . قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه
وسلم إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء فاطردهم عنك ، فدخل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل فنزلت هذه الآية . [ ابن ماجة : 2/1383
].
فهذا نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم خير الرسل أجمعين قد كلفه ربه بتصبير نفسه مع تلك الثلة
من ضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وهذا يعني الاهتمام بشئونهم وقضاياهم وما يواجهونه
من مصاعب ومشكلات ., وكانت الجارية تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذهب
به حيث شاءت ، والأمثلة من السيرة في هذا الباب كثيرة جدا .
وآيات القرآن
الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام تبين أن التكليف الرباني ليس خاصا
بنبينا صلى الله عليه وسلم بل إن الأمة جمعاء مكلفة بإعداد أفراد يتصدون لهذه
المهمة ، هذا مع وجوب أن يقوم كل فرد بدوره حسب استطاعته وقدرته .
قال تعالى : {
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون } [ آل عمران : 104 ]
يقول العلامة
عبد الرحمن بن سعدي غفر الله لنا وله (2)
فكل من دعا الناس إلى خير على وجه العموم أو وجه الخصوص أو قام بنصيحة عامة أو
خاصة فإنه داخل في هذه الآية الكريمة .
ويوافق الباحث
العلامة ابن سعدي فيما ذهب إليه ، وهذا يعني أيضا أن يدخل في هذه الآية الكريمة كل
الآباء والأمهات والمعلمون والمرشدون والعلماء والأمراء وغيرهم ، أي جميع أفراد
المجتمع كل حسب قدرته
.
قال ابن كثير –
رحمه الله - (1) : والمقصود من هذه
الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد
من الأمة بحسبه .
ويدل على ذلك ما
رواه أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع بقلبه
وذلك أضعف الإيمان . [ مسلم : 1/69 ] . وفي رواية : وليس وراء ذلك من الإيمان حبة
خردل . [ مسلم : 1/70 ] .
وبالتمعن في
مفهوم الآية والحديث يتبين لنا أمران هما :
1ـ أن المفلح هو من يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر أي يهتم بشئون غيره وليس مقتصرا على نفسه فقط .
2ـ أن هناك علاقة مطردة بين زيادة الإيمان وتنميته وبين
الشعور بواجب إصلاح الخطأ ليعم الصواب ويندثر المنكر . وبعبارة أخرى : فكلما ربى
الإنسان نفسه كلما أداه ذلك إلى الاهتمام بغيره .
وبما أن كل مسلم
مكلف من قبل خالقه بأن يكون من المفلحين ، وبالجمع بين الآية والحديث يستنتج
الباحث أن الاهتمام بالغير واجب شرعي في عنق كل مسلم بالإضافة إلى أنه مبدأ رئيس
في التربية الذاتية . ومما يدعم هذا القول ويسنده قوله تعالى : { يا أيها الذين
آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا
يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [ التحريم : 6 ] . وقوله صلى الله عليه
وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ سبق تخريجه ] . وبما أن كل فرد مخاطب بهذا
التكليف فإن الواجب عليه الانصياع له وتنفيذ هذه الطاعة الربانية التي تقربه من
الله ومرضاته .
Post a Comment