يتحقق الاسترخاء الفسيولوجي في تتابع حركات الصلاة وانسجام أدائها
بحكمة الخالق سبحانه – هذه هي الأصالة في
الصلاة ، فإن أردت أن تزداد وضوحاً في حقيقة ما يتحقق في الصلاة من فائدة نفسية
بعيداً عن مفاهيم البشر بعيداً عن مفاهيم علماء النفس، بل بمفاهيم الإسلام نفسها ،
فها هو ذا رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يضع يده على أسرار تغيير الحركة وما
يحدث فيها من فائدة نفسية ، ويعالج بتغيير الحركة وحده آفات النفس قبل أن يولد
علماء النفس وقبل أن تعرف مدارس علم النفس
وقبل أن تنشأ المدرسة السلوكية،
وقبل أن يعرف مفهوم التوتر الفسيولوجي بمئات
السنين.
يعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم آفة الغضب بتغيير الحركة، والغضب كلنا
يعلم أنه شدة وحدة ورعونة وطيش وانفعال وعدوان، هذا كله يعالجه رسول الإسلام
بتغيير الحركة، فيقول الصادق المصدوق عليه أفضل السلام وأتم التسليم : " إذا
غضب أحدكم وكان قائماً فليقعد أو قاعداً فليتكئ أو عليه بالوضوء" حركة واحدة
من القيام إلى القعود يعالج بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم آفة الغضب في
أكبر تجمع لآفات النفس لمجرد تغيير الحركة من القيام إلى القعود،فما بالك إذا تآلف
مع القيام والقعود والركوع والسجود والخفض والرفع والقبض والبسط.
هل تتسع بنا المفاهيم الآن لندرك من قريب صدق الحق سبحانه، وهو يستثني
المصلين من آفات النفس فيقول الحق سبحانه:
(إن الإنسان خُلق هلُوعاً إذَا مسهُ الشرُ جزوعاً وإذا مسهُ الخيرُ
مَنوعاً إلا المصَلّينَ الذين هم على صلاتهم دائمون)(المعارج 19-23)
وإذا تآلف مع تغيير الحركة بالقيام والقعود والركوع والسجود والخفض والرفع
والقبض والبسط ،إذا تآلف مع هذه الحركات المتناسقة المنسجمة في الأداء تنظيم
التنفس بأجمل أداء يخطر على قلب بترتيل القرآن الكريم بأحكامه الصحيحة المتواترة
التي يتصل سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام عن رب
العزة سبحانه فيتحقق للمصلي كل معالم تنظيم التنفس بما في التلاوة من أداء سليم –
فالمد الطبيعي والمد اللازم وعارض السكون هذا ما يتحقق في أم الكتاب من قواعد الترتيل الصحيحة، وبهذا الأداء
السليم المتواتر تتحقق عملية تنظيم التنفس بكل أبعادها، والسنة المطهرة توضح ذلك .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين* إياك نعبد وإياك
نستعين اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين)
(الفاتحة1-7)
(الفاتحة1-7)
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ الفاتحة آية آية، ويقف على رأس
كل آية ويمد بها صوته أي أنه يشبع المد العارض للسكون فإذا وصل القارئ إلى آخر آية
في أم الكتاب ولم يتحقق له تنظيم التنفس بالمد الطبيعي وعارض السكون فإنه يجتمع
عليه في كلمة الضالين وحدها مد لازم في الألف
قبل اللام المشددة – مقداره ست حركات-ومد العارض للسكون في الياء قبل النون
الساكنة فإذا أشبع اجتمعت على المصلي اثنتا عشرة حركة هي وحدها كافية أن يخرج
المصلي كل ما في جوفه من زفير يستنشق بعدها شهيقاً كاملاً ممتلئاً وهذا هو هدي
رسول الإسلام ، فقد كان له وقفة بعد التلاوة وقبل الركوع بمقدار ما يحتاج أليه نفسه، لم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن أم الكتاب تستوفى عملية تنظيم التنفس، ولكنه ألزم بقراءتها فقال صلى الله
عليه وسلم : " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " وتستوفى بقية أحكام
التلاوة الصحيحة المتواترة .
عملية الإيقاع والتنغيم التي ينادي بها الهنود ويقولون إنها تثير النشوة
في الخلايا والنشاط في الأعضاء، والسعادة في الحس والوجدان، وهذا ما توارثه الهنود
وأهملته المدرسة السلوكية، ولكنها حقيقة نستوفيها
حقها فهي تتحقق في تلاوة القرآن الكريم بقواعده الصحيحة المتواتره وذلك كإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية
وإعطائها حقها في الغنة والإخفاء والإقلاب والإدغام والإشمام والروم، وما يتآلف
على ذلك من المدود الطبيعية والمد اللازم والمنفصل والمتصل ومد العارض للسكون
وربنا سبحانه يلزم بتلاوة القرآن بأدائها المتواتر فيقول عز من قائل :(ورتل القرآن
ترتيلاً)(المزمل : 4)
وترتيل القرآن الكريم فرض عين، وكل مسلم مطالب بترتيل القرآن فإن لم يستطع
ترتيله كله فليرتل ما يتعبد به ليشافه به
عالماً ممن تلقوا القراءة بسندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي السنة
المطهرة، وهذا هو الهدي النبوي يحقق بالتلاوة الصحيحة كل ما جاء به علماء المدرسة
السلوكية وكل ما توارثه الهنود من فائدة الإيقاع والتنغيم، وهو حقيقة توارثها
الهنود من العبادات القديمة، ومزامير داود أمرها شائع ومعروف – القرآن وهو علم
الأولين والآخرين يستوفي هذه الحقيقة كاملة.
هذه هي الصلاة تستوفي كل مفاهيم البشر السلوكية فتتحقق فائدتها النفسية
دون أن تضع لها العقيدة عنواناً يميزها بل جعلها الله غيباً، وجعل ما تنتهي إليه
من فائدة، حقيقة إيمانية، عهداً ووفاء لمن آمن بالله و اتبع سبيله وهداه.
يقول الحق سبحانه في أول سورة البقرة :
(الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة وما رزقناهم ينفقون والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك و بالأخرة
هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)(البقرة : 1-5)
فهل يمكن بعد هذا المنهج السلوكي الذي يتحقق في الصلاة أن نتابع قول ربنا
سبحانه عن هؤلاء المصلين الذين استثناهم من آفات النفس – فزكاهم وزكى نفوسهم –
ولهذا تستمر الآيات تعدد أوصافهم فيقول الحق سبحانه : استكمالاً لآيات سورة
المعارج,
(إلا المصلين* الذين هم على صلاتهم دائمون* والذين في أموالهم حق معلوم*
للسائل والمحروم* والذين يصدقون بيوم الدين* والذين هم من عذاب ربهم مشفقون* إن
عذاب ربهم غير مأمون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم
لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم بشهاداتهم قائمون* والذين هم على صلاتهم يحافظون *أولئك في جنات
مكرمون)(المعارج:22-35)
فإذا تحقق الركن الثالث من أركان المعالجة السلوكية وهو منهج التصور
وتركيز الانتباه فماذا يكون من أمر هذه العبادة – هل تسمو وتعلو علو الخالق على
المخلوقين وهذه حقيقتها؟
والتصور في الصلاة هو إحسان في العبادة علو لا يرتفع عليه علو، وهو أعلى
مقام في تركيز الانتباه والتصور، والإحسان من حديث جبريل الذي رواه عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فإن حانت الصلاة وأقمت وكبرت
" الله أكبر"فقد أقبلت على الله وأدبرت عن كل ما سواه هذا وحده ينقلك
إلى مرتبة الإحسان في العبادة أعمق موقف للتصور .
فإن أردت أن تتحقق من عمق هذا المعنى فلنرجع على أول صلاة صلاها رسول الله
صلى الله عليه وسلم صبيحة إسرائه ومعراجه فقد نزل إليه جبريل يعلمه كيفية الصلاة
وأركانها ومواقيتها كما أرادها الله لعباده، وجبريل كان رفيقه في الرحلة بالأمس
وهو الآن إمامه في الصلاة.
يرفع جبريل يديه مكبراً فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه قائلاً
" الله أكبر" في هذه اللحظة ألم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدنيا كلها وراء ظهره ويشير إليها بظهر يديه ويقبل على الله.
-نعم-رسول الله ترك الدنيا وراء ظهره وذهب إلى ربه بعقله وكيانه بمشاعره
ووجدانه فالوقت قريب جداً من الأمس وما زالت الصورة ماثلة أمام عينيه صورة المشاهد
الحسية التي رآها في سماء ربه، وما زال يجد ريح الجنة وما زال يعيش حلاوة الوقت
وجمال المكان وما زالت الرهبة تملأ مشاعره.
مع هذه الصورة الحية النابضة وصورة جده آدم وأبيه إبراهيم وأخيه موسى
وهارون وعيسى وإ إدريس ويوسف، كل هذا ما زال يطرق سمعه، مع هذه الصورة التي رآها
رأي العين، وتحقق منها يقيناً بالأمس، وهو الآن يعيشها إحساناً فيرتفع عليها بفكره
وتصوره وهذه قمة عالية من قمم العبادة، والإسلام يأمرنا أن نعبد الله بمرتبة
الإحسان مرتبة المراقبة والمحاسبة نراه في كل أمورنا وهو يرانا، وهذه المرتبة هي جوهر
العبادة الصادقة وهي منهج المعالجة السلوكية في القرآن الكريم نفسه.
هذه المرتبة تتحقق مع ما في الصلاة من خشوع وخضوع وهو الإحسان في كل
معانيه، فأي ارتفاع هذا الذي ترتفع إليه حقيقة المعاني النفسية في الصلاة، تسمو به
على كل ما عداها من برامج نفسية قال بها البشر، وهذا ما ينتهي إليه قول ربنا
سبحانه:
(قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون)(المؤمنون:1-2)
إرسال تعليق