علاج لمخالفات الوظيفية

·   أولاً: تنمية الرقابة الذاتية:فالموظف الناجح هو الذي يراقب الله تعالى قبل أن يراقبه المسؤول، وهو الذي يراعي المصلحة الوطنية قبل المصلحة الشخصية، فإذا تكون هذا المفهوم الكبير في نفس الموظف فستنجح المؤسسة بلا شكّ؛ لأن الموظفين مخلصون لها.
هذه الرقابة تمنع من الخيانة، وتعين على الأمانة، فهي علاج وقائيّ لكثيرٍ من المخالفات الوظيفية قبل حدوثها، فكل فردٍ منا يحب المال، ويسعى جهده للحصول على المزيد منه، فإذا سنحت للموظف فرصة أن يأخذ المال بسهولة عن طريق رشوة لا يشعر بها أحد، فهنا يتجاذبه نازعان، الأول يدعوه لأخذ المال، والثاني مراقبته لله وخوفه من عقابه، فصاحب النفس القوية هو الذي يتغلب عقله على هواه، ويمتنع عن المخالفة.
لذا فهي من المقومات المتفق عليها في العالم ، ففي استبيان أجرته مجموعة روبرت هاف انترناشيونال المحدودة على أكثر من 1400 موظف ، أجاب 58% منهم بأن الاستقامة والنزاهة هما أكثر صفتين تعجبهم في المرشحين للوظائف .
إن أيّ نظام بشري في العالم يمكن الالتفاف عليه، ويمكن ارتكاب المخالفات فيه دون عقوبة، لكن الوصفة الوحيدة في تطبيق النظام هي الرقابة الذاتية التي تمنع الإنسان ذاتياً من ارتكاب المخالفات، وتحثُّه على المزيد من العطاء.
ولتنمية الرقابة الذاتية وسائل: كتقوية الإيمان بالله والتقوى، وتعزيز الحس الوطني، وتحمُّل المسؤولية، والإقناع بأهمية الوظيفة وأدائها بشكل صحيح[1].
·   ثانياً: وضع الأنظمة الدقيقة التي تمنع الاجتهادات الفردية الخاطئة: لأن الممارسات الأخلاقية غير السوية تنتج أحياناً من ضعف النظام، أو عدم وضوحه، أو وجود ثغرات فيه تترك المجال للتلاعب والاستغلال والاجتهادات الشخصية.
فإذا كان النظام ينصّ على وجوب تعيين الأكفاء، فلا بدّ من وضع عوامل الكفاءة، ونسبة كل عامل منها في الأهمية. وإذا كان النظام يمنع الشركات من استيراد الموادّ غير الأخلاقية، فلا بدّ من بيانها بالتفصيل. وإذا كان النظام يمنح الموظف درجة وظيفية في التقييم على أساس تقديمه خدمات إضافية للعمل، فلا بدّ من بيان هذه الخدمات بالتحديد.
وحتى يكون للنظام فعاليته لا يكفي وضعه ولو بشكل دقيق، حتى تتم التوعية فيه بوسائل الإعلام، والنشرات الدورية التي تصدرها الجهات الحكومية والشركات، ومن المبادرات الممتازة في هذا المجال البرنامج الإذاعي لوزارة الخدمة المدنية في المملكة العربية السعودية الذي يهدف إلى التوعية بالأنظمة، وذكر بعض القضايا المعروضة على الوزارة، إضافة إلى موقع الوزارة في شبكة الانترنت، ومن هذه المبادرات النشرات التي تصدرها الشركات الكبرى في المملكة، وقد اطلعت على بعضها فوجدت فيها توعية وظيفية بالنظام في كل عدد يصدر عنها، وهذا واجبٌ على وسائل الإعلام أيضاً، إضافةً للجهات التي تضم مجموعة من الموظفين والعمال.
·       ثالثاً: القدوة الحسنة: فإذا نظر العاملون إلى المدير وهو لا يلتزم بأخلاق المهنة، فهم كذلك من باب أولى.
وأول القدوات رسول الله الذي هو مثال النزاهة، والإخلاص، وحب الخير للآخرين، والالتزام بما يقوله، والصدق، والعدل، والرأفة، وحسن التعامل، وغير ذلك من الصفات الحسنة والأخلاق الجميلة التي أوردناها. قال الله سبحانه لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب:21)

وتصوَّر مديراً يوصي الموظفين بالالتزام بالدوام وهو من أواخرهم حضوراً ! وآخر يوصي بالنزاهة، وأخبار استغلاله الشخصي للوظيفة معروفة للقاصي والداني ! وآخر يتظاهر بمحاربة المحاباة والواسطة، والموظفون يعرفون أن زميلهم إنما تعيَّن في الوظيفة لعلاقته بالمدير ، مع أنه غير مؤهَّل! فهل يمكن لبيئة كهذه أن تشيع فيها أخلاقيات المهنة؟!
القدوة ضرورة لإنجاح عملية التوجيه، والقدوة محطّ أنظار الناس، ومقياس تصرفاتهم، وحتى يكون الشخص مهيَّأً لها فهناك صفات          ذاتية وعلمية وعملية يمكن الرجوع إليها في كتب التربية. [2]
وبالمناسبة: ليس القدوة هو المدير فحسب، بل يجب أن يكون الموظف قدوةً لزملائه في أخلاقيات المهنة، وربما تأثر الموظفون به أكثر من غيره، بدافع المنافسة بينهم، فإنهم لا ينافسون المدير، وإنما يتبارون مع زميلهم ليحققوا رضى المؤسسة عنهم.
·   رابعاً: تصحيح الفهم الديني والوطني للوظيفة:فإذا اقتنع العامل بأن العمل عبادة، وأن العمل وسيلة للتنمية الوطنية، وازدهار البلد، وتحسين مستوى الدخل زاد لديه الالتزام بأخلاق المهنة.
والأمر الآخر هو الربط بين الوظيفة ومستوى الدخل للمواطنين، فإن هناك تناسباً طرديّاً بين الاثنين؛ فكلما تحسَّن أداء الموظفين تحسَّن دخل الفرد وانخفضت الأسعار.
والملاحظ أن المتحدثين عن الوطنية يسهبون كثيراً في جوانب سياسية أو اقتصادية ويغفلون جانب الانتماء الوطني الوظيفي؛ فإن الولاء للوظيفة هو ولاء للوطن، ومن صميم الوطنية.
وهنا يبرز دور المسجد والمدرسة والجامعة ووسائل الإعلام في توعية الناس بأخلاقيات المهنة من منظور إسلامي، وهي أخلاق الإسلام التي دعا إليها وأكَّد عليها، وتوعيتهم بطبيعة المهنة التي هي ركيزة من ركائز المجتمع الإسلامي، إذ هي من فروض الكفايات، ولا غنى للدولة الإسلامية عنها. وتغيير النظرة السائدة عن الوظيفة من كونها مصدراً للدخل فقط، إلى كونها وسيلة من وسائل طاعة الله تعالى من أبواب كثيرة.

·   خامساً: محاسبة المسؤولين، والموظفين: فلا بدّ من وجود الأجهزة الرقابية التي تشرف على تطبيق النظام، وتحاسب المقصِّرين والمخالفين.
ومن أجل ذلك شرع الإسلام الحدود لتكون رادعاً لكل متجاوزٍ للأنظمة الإسلامية،  
وكان النبي (ص)  يحاسب عمَّاله، كما قال البخاري في صحيحه:" باب محاسبة الإمام عمَّاله، ومحاسبة المسؤول تحميه من ضعف النفس، والاستغلال، وتحمي المؤسسة من الخسارة، وتنظف المجتمع من الظواهر السلبية والأمراض الاجتماعية.
ولا أنسى هنا أن أذكِّر أن هذه المحاسبة لا بدّ أن يسبقها توعية بأهمية الزهد في الدنيا، والورع، والنزاهة.
·   سادساً: التقييم المستمر للموظفين:مما يحفزِّهم على التطوير إذا علموا أن من يطوِّر نفسه يقيَّم تقييماً صحيحاً، وينال مكافأته على ذلك، والتقييم يعين المسؤول على معرفة مستويات موظفيه وكفاءاتهم ومواطن إبداعهم.
ولكن التقييم لا يكون فعالاً إلا إذا كان نزيهاً دقيقاً. فلا ينفع التقييم العامّ الهلاميّ الذي لا يفصِّل مواطن القوة والضعف، ويقسَّم إلى درجات واضحة، ويكون له أثرٌ ملموس.
ونرى في كثيرٍ من الجهات تقييماً سنوياً للموظفين، ولكن لا يتبعه أيّ أثر على تطويرهم، ولا معالجة سلبياتهم، وذلك بسبب الأمن الوظيفي الذي يوفِّره النظام.
وعلى سبيل المثال: إذا كان الموظف في مؤسسة خاصة وهو ابنٌ لصاحب المؤسسة، فهل يتوقَّع أن يغيَّر تقييمه السنويّ من وضعه الوظيفي؟ هذا إن كان يتم تقويمه!
وغالباً ما يتوفر ذلك في الوظائف الحكومية، فالدولة تتحاشى معاقبة أو فصل الموظف حمايةً له من التقييم الكيدي من قبل مسؤوله، وهذا يعطيه اطمئناناً وظيفياً يؤثِّر على مستوى أدائه سلبياً في كثيرٍ من الحالات.
والعلاج: أن يعيَّن المسؤولون النزيهون، وبالتالي يكونون موطن ثقة الدولة في تقييمهم، ويمكن أن يكون التقييم من أكثر من شخص زيادةً في النزاهة، وأن يكون للتقييم فعالية ملموسة.
·  القضاء على المحسوبية في التعيين، بالإعلان عن الوظائف من خلال مسابقة وظيفية، وإشراك أكثر من مسؤول في التوظيف، وتحديد الأسس التي يعيَّن على ضوئها المتقدِّم بدقة.
فأمراض الواسطة والمحسوبية وتغليب جانب الصداقة والقرابة والمنفعة على المصلحة العامة يجب أن تختفي إذا كنا نطمح إلى تنمية حقيقية، وحسبك أن رسول الله كان من أعمامه من لعنه الله في القرآن الكريم، فلم يراعِ جانب القرابة في تقريبه والإغضاء عنه ومسامحته، ما دام أنه عدوٌّ لله ورسوله.
وكتب عمر بن العزيز رحمه الله إلى عامله على خراسان:" إنه بلغني أنك استعملت عبدالله بن الأهتم، وأن الله لم يبارك لعبدالله بن الأهتم في العمل، فاعزله، وإنه على ذلك لذو قرابة لأمير المؤمنين." [3]
·  تشجيع الموظفين والمواطنين على كشف الفساد الإداري والمظاهر السلبية: بوضع نظام للمكافآت على التبليغ عن أيّ خلل في أداء الوظيفة، وتخصيص هاتف لذلك، أو وضع صندوق للملاحظات مع بيان هوية المبلِّغ ليتم الاتصال به للتحقق ثم المكافأة، مع التشديد على عدم قبول البلاغات الكيدية، ومعاقبة صاحبها.
وقد كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يعطي الأعطية لمن يرشد لأمر يظهر حقاً أو يبطل باطلاً، والقاضي عبدالرحمن بن معاوية بن حديج رحمه الله ( 86 هـ ) جعل الجوائز لمن يكشف عن أموال اليتامى، فحفظت بذلك أموال اليتامى. [4]



[1]  ( للمزيد يراجع مبحث الرقابة الذاتية في الأخلاق المحمودة )
[2]  منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب ، وأصول التربية الإسلامية وأساليبها لعبدالرحمن النحلاوي وغيرها.
[3]  ابن الجوزي/ سيرة ومناقب عمر بن عبدالعزيز ( 105 )
[4]  العمر/ د.فؤاد: أخلاق العمل وسلوك العاملين في الخدمة العامة ( 87 )

Post a Comment

Previous Post Next Post