لزوم الاعتدال في جميع الأحوال: فينبغي في ذلك الخضم من الفتن والمصائب ألا يفارقنا هدوؤنا، وسكينتنا، ومروآتنا؛ فذلك دأب المؤمن الحق، الذي لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يفقد صوابه عند النوازل، ولا يتعدى حدود الشرع في أي شأن من الشؤون.
ويتأكد هذا الأدب في حق من كان رأساً مطاعاً في العلم، أو القدر؛ لأن لسان حال من تحت يده يقول:
اصبر نكن بك صابرين فإنما | | ||
| صبر الرعية عند صبر الراس | ||
قال كعب بن زهير÷: في قصيدته المشهورة _البردة_:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم | | ||
| قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا | ||
فهو يمدح الصحابة _رضي الله عنهم_ بأنهم لا يفرحون من نيلهم عدواً؛ فتلك عادتهم، ولا يحزنون إذا نالهم العدو؛ لأن عادتهم الصبر والثبات.
وقال عبدالعزيز بن زرارة الكلابي× وهو من خيار المجاهدين من التابعين:
قد عشت في الدهر أطواراً على طرق | | |
| شتى فصادفت منها اللِّيْن والبَشِعا | |
كُلاً بلوتُ فلا النعماء تبطرني | | |
| ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائها جزعا | |
لا يملأُ الهولُ قلبي قبل وقعته | | |
| ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا | |
فهذه الخصال يمتثلها عظماء الرجال؛ فلم يكونوا يتخلون عن مروآتهم، وعاداتهم النبيلة حتى في أحلك المواقف.
وها هو سيد العظماء، وسيد ولد آدم نبينا محمد _عليه الصلاة والسلام_ يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك؛ فهو يقوم بصغار الأمور وكبارها؛ فلم يمنعه قيامه بأمر الدين، وحرصه على نشره، وقيادته للأمة، وتقدمه في ساحات الوغى_ لم يمنعه ذلك كله من ملاطفة ذلك الطفل الصغير الذي مات طائره، وقولِه له :=يا أبا عمير ما فعل النغير+!([1])
ولم يكن أحد يلهيه عن أحد | | ||
| كأنه والد والناس أطفال | ||
فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء _ فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.
تذكر كتب السير التي تناولت سيرة عمر بن عبدالعزيز× =أنه لما دَفَنَ ولَدَه عبدالملك _ وهو أبر أولاده، وأكثرهم ديناً وعقلاً _ مرَّ بقوم يرمون؛ فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارموا، ووقف، فرمى أحدُ الراميين فأخرج _ يعني أبعد عن الهدف _ فقال له عمر: أخرجت فقصِّر، وقال للآخر: ارمِ، فرمى فقصَّر _ أي لم يبلغ الهدف _ فقال له عمر: قصَّرت فبلِّغ.
فقال له مسلمة بن عبدالملك: يا أمير المؤمنين! أَتْفِرغ قلبك إلى ما تفرغت له، وإنما نفضت يدك الآن من تراب قبر ابنك، ولم تصل إلى منزلك؟ فقال له عمر: يا مسلمة! إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فالْهُ عما نزل بك+([2]).
فالأخذ بهذه السيرة_أعني الاعتدال حال نزول الفتن_ ينفع كثيراً، ويدفع الله به شراً مستطيراً؛ لأن الناس حال افتن يموجون، ويضطربون، وربما غاب عنهم كثير من العلم؛ فلذلك يحتاجون_وخصوصاً من كان عالماً، أو رأساً مطاعاً_ إلى لزوم السكينة، والاعتدال؛ حتى يُثَبِّتوا الناس، ويعيدو الطمأنينة إلى النفوس، ولا تقطعهم تلك النوازل عما هم بصدده من عمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =ولهذا لما مات النبي"ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم؛ حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطويِّ ([3])البعيدة القعر؛ فهذا ينكر موته، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه، ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته؛ فقام الصديق÷بقلب ثابت، وفؤاد شجاع فلم يجزع، ولم ينكل قد جُمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي"وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم: =من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)]آل عمران.
فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحداً إلا وهو يتلوها، ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم.
قال أنس÷: =خطبنا أبو بكر÷وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود+.
وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه، وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا، ويقويهم إذا ضعفوا، ويحثهم إذا فتروا؛ فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم؛ حتى كان عمر_مع كمال قوته وشجاعته_ يقول له: يا خليفة رسول الله تألف الناس، فيقول: علام أتألفهم؟ أعلى دينٍ مفترى؟ أم على شعرٍ مفتعل؟ وهذا باب واسع يطول وصفه+([4]).
[1]-أخرجه البخاري(6129و6203) ومسلم (2150) عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله"أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيمٌ، وكان إذا جاء قال: =يا أبا عمير ما فعل النغير+ نغرٌ كان يلعب به. وهذا لفظ البخاري.
[2]-الجامع لسيرة عمر بن عبدالعزيز لعمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء، تحقيق د. محمد البورنو(2/236).
[4]-منهاج السنة النبوية 8/83_84.
Post a Comment