النظرية المعرفية وتطبيقاتها التربوية
نظريات التعلم : مقارنة بين السلوكية
والمعرفية
النظريات المعرفية:
النظرية المعرفية
النظرية المعرفية لبياجيه
النظرية السلوكية والنظرية المعرفية
والفرق بينهما
النظرية المعرفية في التعلم
النظرية المعرفية
المدرسة المعرفية
المدرسة المعرفية في علم النفس
الفرق بين نظريات التعلم السلوكية
والمعرفية
النظريات المعرفية:
علم النفس المعرفي (psychologie
cognitive) هو علم يدرس تكوين وتناول المعلومات لدى الإنسان (Cognition)، والمعرفة هي موضوع إهتمام هذا الفرع
المتعلقة بأنواع المعلومات المختلفة التي نكتسبها في مواقف الحياة التي نتعرض لها،
كما تتعلق بأنواع العمليات المرتبطة بطريقة اكتسابها والإحتفاظ بها في الذاكرة
وإعادة استخدامها.
بواسطة دراسة المعرفية يتطلع علماء النفس المعرفي إلى فهم
الممارسات اليومية لمختلف أنشطة الفرد بصفة مستمرة والتي تشترك فيها العديد من
العمليات المعرفية مثل: الإنتباه، الإدراك، التفكير، التذكر، وحل المشكلات، التعلم
والعمليات الإرتقائية المختلفة.
مصطلح
علم النفس المعرفي ظهر في دراسات بلاك ورامسي (Black, Ramsey) سنة 1951 في كتاب "الإدراك، مدخل إلى
الشخصية" غير أننا لا يمكن إغفال أعمال على سبيل المثال هيرمان ابنغهاوس (Ebbinghaus,
Hermann)
(1850-1909) في مجال كيفية حدوث العمليات المعرفية لتفسير السلوك الإنساني
(الذاكرة والتذكر)، وفيما بعد أعمال جون بياجيه (Jean PIAGET) حول النمو المعرفي لدى الطفل. هذا العلم الذي نما وتطور كثيرا موظفا كثيرا مختلف الإكتشافات
العلمية في تفسير مختلف العمليات العقلية حتى أنهم يعتبرون أن التفكير لدى الإنسان
يتم بنفس الطريقة التي يتم بها برنامج حاسوبي مثلا، أو
تفسير عملية التعلم لدي الإنسان من خلال ما يعرف بالإرتباطات الشرطية، كعملية بناء معرفي يخزن في
الذاكرة -
حيث تنظيم المعلومات الخاصة بالأحداث المختلفة التي حدثت
وتعرض لها الفرد- ويستعيدها منها ويعطي الإستجابة الموافقة عندما يستقبل المنبهات
(أسئلة الإختبار مثلا). فالمتعلم يعتمد على البناء المعرفي الذي تلقاه ويسترجعه من
الذاكرة،
ويوظفه وفق الموقف الذي تطلب استدعاء البناء المعرفي،
وبالتالي فإن الإستجابة تختلف بإختلاف طبيعة الموقف. فالعضوية
تخزن في الذاكرة الأحداث التي وقعت في التجربة، وعند إختبارها، يتم استرجاع هذا
البناء المعرفي، والإستجابة تتحدد حسب المعلومات التي تم تعلمها واختزانها.
من
هنا كان اهتمام كثير من علماء النفس بالتعلم المعرفي، أي التعلم الذي يصحبه إستثارة
الفهم والإستبصار، وتكوين تصورات ذهنية عن الموضوعات المتعلمة. وأبرز هؤلاء العلماء
هم علماء الجشطلت (Gestalt) "الشكلية " والتعلم بالإستبصار.
أ- نظرية الجشطالت:
التسمية
مشتقة من كلمة غشتالت GESTALT الألمانية، التي تعني "الصيغة" أو "الشكل".
مؤسسها ماكس ورتايمر (Max WERTHEIMER) (1880-1943) الذي
انضم إليه كورت كوفكا (Kurt
KOFFKA) (1886-1941م)
وولفانغ كوهلر (Wolfgang
KöHLER) (1887-1967م).
اختارت
المجموعة الإدراك (إدراك الحركات المرئية) * ليكون موضوعاً لسلسلة من التجارب
المخبرية التي تولى ورتايمر الإشراف عليها وشارك فيها كوفكا وكوهلر كمفحوصين.
الجشطلت
(Gestalt) هذا المفهوم »الأساسي الرئيسي في النظرية الجشطلتية لا يمكن لسوء الحظ، ترجمته إلى الإنجليزية (والعربية) أيضا ترجمة دقيقة وبطبيعة
الحال
فان هذا هو سبب بقاء الكلمة الألمانية الجشطلت (Gestalt) جزءاً من
مصطلحات
علم النفس الفنية المستخدمة عالميا. والكلمة تعني أقرب ما يكون الصيغة أو الشكل أو النموذج أو الهيئة أو النمط أو البنية أو الكل المنظم، كذلك الكل المتسامي ... والجشطلت كل مترابط الأجزاء باتساق أو انتظام، أو نظام
فيه تكون
الأجزاء المكونة له مترابطة ترابطاً دينامياً فيما بينها وما بين الكل ذاته.»[1]
جاءت
هذه النظرية ردا على المدرسة الارتباطية وفكرة الارتباط. »وقالوا بأن الخبرة تأتي في صورة مركبة،
فما الداعي إلى تحليلها ثم البحث عما يربطها. وذهبوا إلى أن تمييز العناصر مضلل في
علم النفس، وأن السلوك لا يمكن رده إلى مثير واستجابة. »[2]. فإذا ما أردنا أن نفهم
لماذا
يقوم الكائن بالسلوك الذي يسلكه فلا بد لنا من أن نفهم كيف يدرك هذا الكائن نفسه والموقف الذي يجد فيه نفسه، ومن هنا كان الإدراك من القضايا
الأساسية
في التحليل الجشطلتي.
عارضت النظرية الجشطلتية
تلك النظرة
إلى النفس الإنسانية
المتمثلة
في أن هذه النفس ليست أكثر من اﻟﻤﺠموع الكلي لأجزائها المكونة لها والمتمثلة في الأحاسيس والمشاعر وغيرها. أليس العقل أكثر من مجرد مجموعة أو خليط مما يحتويه؟ أليست الألحان الموسيقية أكثر بكثير من مجرد النغمات المتوالية التي تتكون منها؟
وهل الجملة مجرد جمع للحروف والكلمات؟ أليست السيمفونية شيئا يختلف كل الاختلاف عن مجرد مجموع
الأصوات التي تصنعها مجموعة مختلفة من الموسيقيين عن طريق مجموعة من الآلات
الموسيقية
في آن واحد وفي غرفة واحدة؟ والشيء الذي أدى إلى ظهور النظرية الجشطلتية والنظريات الأخرى المنافسة لها
يمثل الاعتقاد الراسخ
بأن الصورة
الآلية
الإرتباطية الخاملة للنفس البشرية لا تعبر بحق عن الطبيعة الفنية الخلاقة ذات الطبيعة المعقدة التنظيم للعمليات والحوادث العقلية.[3]
ولما
كان للغشطلتيين صلة بالعلوم (كوهلر تلقى تعليما فيزيائيا ورياضيا، ورتايمر صديقاً
للعالم الفيزيائي المعروف ألبرت أنشتاين. ومن خلال هذه العلاقة قام بإشراكه في
تجارب وأجرى معه سلسلة من المقابلات). فلا عجب، والحالة هذه، أن يعلن هؤلاء عن إقامة
علم النفس وفق النموذج الفيزيائي اعتقاداً منهم بأنه يضمن الإرتقاء بدراسة الظاهرة
الإدراكية من مستوى الوصف إلى تعيين بعدها المادي والفيزيولوجي.[4]
1- التعلم عند الغشطالت:
التعلم في صورته
النموذجية
عملية إنتقال من موقف غامض لا معنى له أو موقف لا ندري كنهه إلى حالة يصبح معها ما كان غير معروف أو غير مفهوم أمرا في غاية الوضوح ويعبر عن معنى ما ويمكن فهمه والتكيف معه.
وتختلف الطريقة الجشطلتية في فهمها للتعلم اختلافا جذريا عن
وجهات
النظر السابقة، بل إنها تتناقض تناقضا حادا مع وجهات النظر المعاصرة لها (المحاولة والخطأ، الإرتباط)، فالأساس في التعلم الفهم والاستبصار
والإدراك. فالتعلم يحدث نتيجة الإدراك الكلي للموقف وليس نتيجة إدراك أجزاء الموقف
منفصلة لأن تحليل الكل أي أجزائه المكونة له يفقد كثيرا من خصائصه.
ففي
إحدى تجاربه يقوم كوهلر بوضع الشمبانزي
في قفص يتدلى من سقفه قرط من الموز. ولكي يصل هذا القرد إلى الطعام عليه أن يستخدم
عصا موجودة في ركن من أركان القفص (أو يتسلق، في وجه آخر لهذه التجربة، صندوقاً من
الخشب ملقى في أحد أركان القفص، أو يتسلق، في وجه ثالث، صندوقين خشبيين متفاوتي
الحجم بعد أن يضع الصندوق الصغير فوق الصندوق الكبير، أو أن يقوم بسحب طرف أحد
الحبال الذي يتصل بالموز).
وفي
تجربة أخرى كان كوهلر يضع الموز خارج القفص وعلى مرأى من الشمبانزي. ولكن الحيوان
لا يستطيع أن يصل إليه إلا إذا استخدم عصا موجودة على مقربة منه كامتداد ليده، أي
أن يستخدمها كأداة. وفيما بعد قام كوهلر بتعقيد شروط المشكلة، إذ وضع عصوين في ركن
القفص وضمن ساحة إدراك الحيوان. وكان على الحيوان لكي يحصل على الطعام أن يحوّل
العصوين إلى عصا (أداة) واحدة بإدخال نتوء يوجد في طرف إحداهما بثقب موجود في طرف
الأخرى، لأن استخدام واحدة منهما فقط لا يوصل إلى الهدف. وكان القرد يجد الحل
للمشكلات.
فكيف يتم ذلك؟ يجيب كوهلر ومعه كوفكا بأن
سلوك الحيوان يقتصر في البداية على تأمل الموز والنظر في الأدوات المقترحة (العصا،
الصناديق، الحبال.. الخ)، ثم يحول بصره عنها ويلتفت حوله بعض الوقت ليرجع بعدها
إلى تأمل الهدف والوسيلة، وهكذا، دون أن يقوم بأي إجراء عملي يذكر.
وفي
التجربة الأخيرة (ذات المرحلتين) لم يلاحظ كوهلر أي جديد في سلوك القرد، باستثناء
عدد المحاولات التي قام بها بعد التقاطه للعصا الطويلة (وأحياناً القصيرة)، وعدم
تمكنه من الوصول إلى الهدف، الأمر الذي جعله يتراجع قليلاً ليتأمل العصوين من جديد
لينتهي به الأمر إلى إلتقاطهما وإدخالهما بعضهما ببعض وتحويلهما، بالتالي، إلى عصا
واحدة طويلة، ثم الإمساك بها ليحصل في النهاية على الموز.
وهكذا
يمر الحيوان (وكذا الإنسان) للخروج من الموقف الإشكالي، في رأي الغشتالتيين، بمرحلتين
رئيسيتين:
المرحلة الأولى:
ويقوم خلالها الحيوان بدراسة الموقف والنظر في شروطه، وهو ما يدعى بالإستبصار.
المرحلة الثانية:
وفيها يتوصل الحيوان إلى الحل بصورة مفاجئة. وتشمل هذه المرحلة الجانب الأدائي أو
الإجرائي من النشاط الذهني.
من
خلال التجارب إنتقل الغشتالتيون من دراسة الإدراك إلى دراسة التفكير، الذي هو بالنسبة لهم إعادة تنظيم عناصر الموقف، حيث
تتخذ فيه هذه العناصر صيغة جديدة أو غشتالتاً جديداً. وهو ما أطلق عليه
الغشتالتيون مفهوم الإستبصار.[5] الذي
هو الفهم الكامل لبنية الغشطالت من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه وإعادة تنظيم
هذه العلاقات.
ا- العوامل المؤثرة في الاستبصار:
هناك
عوامل لها تأثير على عملية الإستبصار.
- مستوى النضج الجسمي:
في تجربة كوهلر لا معني ولا جدوى من العصا
إن لم يكن القرد قادرا على حملها.
- مستوى النضج العقلي:
تنظيم المجال وإدراك العلاقات يكون حسب درجات القدرة العقلية.
- تنظيم المجال:
في تجربة العصا (الوسيلة)، والهدف (الموز)، والجوع (الدافع). ولو غاب عنصر من هذه
العناصر ما حصل الإستبصار.
- الخبرة:
الألفة بعناصر الموقف تساعد على إعادة تنظيمه وربط أجزائه بعضها ببعض.
»أما المسألة الخاصة بطبيعة التعزيز ودوره في عملية التعلم وهي المسألة التي تعتبر في صلب نظرية التعلم المعاصرة، فهي مسألة لا تحظى باهتمام كبير عند العلماء الجشطلتيين.
والواقع
أن هؤلاء العلماء يرون أن أوجه التعزيز الخارجي مثل الطعام والنجوم
المذهبة
التي توضع على كتابات الأطفال تشجيعا لهم والربت على رؤوس الآخرين تشجيعا إنما تصرف
الإنتباه
عن التعلم ولعلها وسائل تتدخل في عملية التعلم الحقيقي.»[6]
2- قوانين الغشتالت (التعلم):
هناك
قوانين ينتظم تبعا لها العالم الخارجي في مجال الإدراك، هذه القوانين التي تعرف
كذلك باسم التنظيم الإدراكي منها:[7]
1- قانون التشابه: فالأشياء والمعلومات والخبرات المتشابهة على
اختلاف أنواعها وأحجامها وأشكالها، وخبرات معرفة أو خاصة باكتساب مهارة من نوع ما
تميل إلى التجمع لتكوين وحدات معرفية أو مهارية متكاملة يزيد فيها إتضاح
المعني.
2- قانون التقارب: الأشياء المتقاربة في الزمان والمكان من العوامل
المساعدة على إدراك المجموعات الحسية.
3- قانون الثبات أو الإقفال (الإغلاق): فالأشياء الناقصة تدعونا إلى
إدراكها كاملة، فالأشياء الناقصة تميل إلى أن تكمل نفسها حتى تكون أثبت وأسهل في
تكوين الصورة أو الصيغة في الإدراك الحسي.
4- قانون الاتصال (الإستمرار): الأشياء المتصلة تدرك كصيغ، مثل
النقاط التي بينها خطوط.
5- قانون الشمول: الأشياء تدرك كصيغ إذا كان هناك ما يجمعها ويحتويها
ويشملها كلها، فصورة صفين متوازين من الأشياء تعطي صيغة طريق مثلا.
»ومجمل ما عناه الغشتالتيون بهذه القوانين
هو أن الفرد ينزع إلى إدراك الأشياء بصورة كلية ومتوازنة وحسنة بفعل العمليات
الفيزيولوجية الفطرية التي يقوم بها الدماغ. فالصورة ندركها كاملة ولو تخلّلتها
فجوات أو ثغرات أو حتى إذا كانت مجرد خطوط متقطعة. كما ننزع إلى الربط (الإغلاق)
بين النقاط الموجودة أمامنا على الورقة وإدراكها كشكل هندسي. ونؤلف بين الأشياء
القريبة بعضها إلى بعض في صورة كلية.»[8]
وتقارب الأشياء زمنيا ومكانيا يساعد على تذكرها.
3- التطبيقات التربوية لنظرية الغشتالت:
هذه
النظرية لو اعتمدنا وطبقنا القوانين التي جاءت بها فيمكن الإستفادة منها في عدة
نواحي منها:
- فمادام الكل يسبق الأجزاء، ففي ميدان التربية والتعليم فإن عرض موضوع
التدريس في جملته وتوضيح النظرة العامة وبعد ذلك التطرق إلى أجزائه يساعد على فهم
الوحدة الكلية للموضوع.
- كذلك إتباع الطريقة الكلية أي البدء بالجمل عوضا عن الكلمات والحروف يكون
أحسن بالنسبة للتلميذ، فالحرف لا معنى له بالنسبة للطفل المبتدئ، أما الجملة فإن
لها مدلول ومعنى يسهل على الطفل إدراكه.
- لو اعتمدنا على قانون الثبات
والإقفال فان الحقائق (الجمل، الأفكار، الكلمات..) الناقصة، والمعلومات غير المرتبة
سيميل الفرد إلى إكمالها وترتيبها في ذهنه، وبذلك يتخلص من القلق الذي تثيره هذه
الحقائق المشوهة.
3- التعلم بالملاحظة:
يعود
تاريخ نشأة هذه النظرية إلى بداية الستينيات، عندما قدم زعيمها ألبرت باندورا (Albert
BANDURA) بحثاً
إلى ندوة نبراسكا (Nebraska) بعنوان "التعلم الإجتماعي من خلال المحاكاة ("SOCIAL
LEARNING THROUGH IMITATION") (1962). ونشر بالإشتراك مع أحد طلابه وهو ريتشارد ولترز (R.
WALTERS)
كتاباً تحت عنوان "التعلم الإجتماعي ونمو الشخصية" (SOCIAL
LEARNING AND PERSONALITY DEVELOPMENT)" (1963). ولم تتخذ أبعادها وتكتمل محاورها كنظرية إلا بعد
مضي أكثر من عقد من الزمن، أي في نهاية السبعينيات.
فبعد
أن أشار الباحثان إلى كتاب ميللر ودولارد "التعلم الاجتماعي والتقليد"
وما احتواه من فرضيات تستثير الفكر، سجلا حقيقة ذات مغزى تطوري وتاريخي، حيث قالا:
"وقد تطلب الأمر عشرين سنة أخرى كي تصبح المحاكاة مشكلة نظرية ومشكلة بحث على
قدر كبير من الأهمية وقد تحول محور اهتمام رئيس من محاور البحث من تحليل التعلم
القائم على المحاكاة إلى تحليل التعلم بالملاحظة. وهذا النوع من التعلم يتصدى إلى
قضايا إكتساب الإستجابات الجديدة."[9]
مما
لا شك فيه كذلك هو أن للسلوكيين الجدد أثرهم على هذه النظرية، الذين حاولوا التوفيق بين السلوكية الواطسنية
المسيطرة
في أمريكا وبعض المسلمات المقدمة في النظريات الأخرى. ولعل أهم ما قدم منهم هو اعترافهم بأهمية العوامل الوسيطة (المعرفية والنفسية).
فعلى سبيل المثال تحدث هل
(Hull) عن العوامل الوسيطة والتي تشمل الحوافز، العادة والكبح، كما حاول دولارد ومللر (Miller) ترجمة المفاهيم الفرويدية إلى
مفاهيم
سلوكية. كما قدم طولمان (Tolman) فكرته عن السلوك الهادف
(الغائية) والتوقع في عملية التعلم حيث تدل الفكرتان على أهمية الجانب المعرفي.
كما
كان للتقدم في مجال نظريات التعلم المعرفية وخاصة التقدم في مجال
المعالجة
المعلوماتية أثرها، وهذا ما يظهر في تبني باندورا لهذه العمليات العقلية كمتغير تفاعلي في تفسيره للتعلم.
إذا
كان أصحاب الحتميات البيئية أمثال سكنر يرون أن السلوك تجري مراقبته من قبل قوى خارجية تطغى على الكائن الذي يملك القدرة على التفاعل والتشكل بفعل الأحداث الخارجية، وإذا كان على النقيض من ذلك
(أصحاب
الحتمية الذاتية) يرون أن الأحداث الداخلية (المتمثلة في شكل غرائز ودوافع
وسمات وغيرها) هي التي تلزم الكائن الحي على السلوك بطرق ثابتة وتكوّن الشخصية المتشكلة، فان الموقف البديل يقر بالتأثيرات الداخلية والخارجية على حد
سواء.
وعند النظر إلى هذه المصادر الرئيسة الثلاثة من المحددات:
السلوك، البيئة، العوامل الشخصية، فلا تعطى لأي منها أي مكانة متميزة على حساب المصدرين الآخرين، رغم أنه في بعض المواقف قد يبرز عامل من الثلاثة
كمؤثر
مسيطر. ويقول باندورا إن هذا هو موقفه هو، أو ما يسمى بالحتمية المتبادلة،
وينظر
إلى التأثيرات المحددة على أساس أنها إحتمالية في طبيعتها أكثر من كونها الحتمية السببية، محددات السلوك هذه يمكن
تمثيلها في الشكل الموالي رقم (3)
الشكل رقم(3) محددات السلوك
العوامل
الشخصية
(التوقعات، المعتقدات، الإدراكات الذاتية،
الأفكار، التفضيلات،...)
هو شكل مثلث معكوس والعوامل الشخصية وُضعت في رأس المثلث المقلوب لما لها
من أهمية حسب باندورا. العمليات المعرفية التي تعتبر نظما تمثيلية رمزية، عادة ما تتخذ
شكل الأفكار والصور الذهنية. وتلعب دورا مركزيا في نظرية باندورا إذ تتحكم في سلوك الفرد والبيئة، وفي الوقت ذاته محكومة بسلوك الفرد والبيئة.
على كل حال كل هذه العناصر متأثرة ومؤثرة بعضها في بعض.
»في الحتمية المتبادلة فإن السلوك الإنساني هو وظيفة المحددات السابقة المتعلمة واللاحقة المحددة. وكل مجموعة محددات تحتوي على متغيرات هي في طبيعتها معرفية إلى حد كبير، وإن لم تكن كذلك بصورة مطلقة. وهذه الأشكال من أشكال المعرفة تحدث من خلال ملاحظة الإنسان لنتائج سلوكه هو و/ أو من ملاحظته لسلوك الآخرين وهكذا فإن مصدرين رئيسيين للتعلم هما نتائج الإستجابات (التعلم بالعمل).
وما ظل حتى الآن يدرس
بصورة
تقليدية تحت عناوين مختلفة مثل المحاكاة (أو التقليد)، والعمليات الإبدالية النموذجية، أو التعلم
القائم على الملاحظة (التعلم بالملاحظة).»[10]
أما
فيما يخص المحددات السابقة للسلوك» هي تلك التأثيرات المعقدة التي تحدث قبل قيام السلوك، وتشمل المتغيرات الفسيولوجية والعاطفية،
والأحداث المعرفية مثل التوقعات والترقبات، والآليات الفطرية للتعلم، أما المحددات التالية فتشمل أشكال التعزيز
(التدعيم) أو العقاب التي قد تكون خارجية في طبيعتها أو
داخلية، أو حثا ذاتيا. »[11]
نموذج
التعلم بالملاحظة يقوم على افتراض أن الإنسان ككائن إجتماعي يتأثر باتجاهات
الآخرين ومشاعرهم وتصرفاتهم أي بسلوك الآخر. ونتعلم الاستجابات الجديدة
ﻟﻤﺠرد
ملاحظة سلوك الآخرين. هؤلاء الناس الآخرون يعتبرون من الناحية التقنية نماذج، واكتساب الإستجابات من خلال مثل هذه
الملاحظة يسمى الإقتداء بالنموذج.
1- الإنتباه والتعلم:
من
بين التجارب التي قام بها باندورا في إحدى رياض الأطفال هي أنه قام بتقسيم الأطفال
إلى خمس مجموعات كما يلي:
1- شاهد أفراد المجموعة الأولى رجلا يعتدي جسديا ولفظيا على دمية كبيرة
بحجم الإنسان مصنوعة من المطاط مملوءة بالهواء.
2- أفراد المجموعة الثانية شاهدوا نفس الأحداث مصورة في فيلم سينمائي.
3- أفراد المجموعة الثالثة شاهدوا هذه الأحداث العدوانية نفسها لكن في فيلم
كرتوني.
4- أفراد المجموعة الرابعة لم شاهدوا أيا من هذه الأحداث واعتبروا كمجموعة
ضابطة
5- أفراد المجموعة الخامسة شاهدوا شخصا مسالما غير عدوانيا.
ثم
وضع كل طفل من هذه المجموعات الخمس إلى وضع مشابه للوضع الذي شاهد فيه سلوك
النموذج وقامت مجموعة من الملاحظين بمراقبة، من وراء زجاج نافذة ذو
اتجاه واحد، إستجابات كل طفل للوضع الذي هو
فيه وتسجيل الإستجابات العدوانية. وبينت
نتائج الدراسة أن متوسط الإستجابات
العدوانية للمجموعات الثلاثة الأولى (التي شاهدت الموقف العدواني) يفوق بكثير
متوسط إستجابات المجموعتين (الرابعة
والخامسة).[12]
2- آثار التعلم بالملاحظة:
ويسميها
باندورا التعلم بالمحاكاة ويقترح
على الأقل ثلاثة أنواع من آثار
هذا التعلم بالملاحظة:
1- تعلم سلوكات جديدة:
عندما يقوم النموذج بأداء إستجابة جديدة فان الملاحِظ يحاول تقليدها، والنموذج ليس
بالضرورة أن يكون حيا حقيقيا، بل يكون في التمثيلات الصورية، والرمزية الموجودة في
الأساطير والكتب والأفلام والحكايات الشعبية وغيرها، كل ذلك يقوم بوظيفة النموذج
الحي.
2- الكف و التحرير: ملاحَظة النموذج تؤدي
إما إلى تحرير بعض الإستجابات التي كانت متاحة من قبل في رصيد الشخص الملاحِظ وإما إلى الكف وتجنب
أداء بعض السلوكات.
3- تسهيل ظهور إستجابات: هي الإستجابات التي تقع في حصيلة الملاحظ
السلوكية فالأمر لا يستدعي اكتساب إستجابة جديدة بل يساعد على إزالة الخوف ومنع
الكف.
والواقع أن آثار النماذج لا تقتصر على مجرد
المحاكاة علما أن عمليات الانتباه لها محددات والإنسان لا ينتبه لكل الحوادث التي
تحصل في الحياة. ووفقا لما قاله باندورا هناك على الأقل متغيران رئيسان، بالإضافة
إلى الدافعية، يؤثران على هذه العملية. الأول يرتبط بخصائص النموذج، ويرتبط الثاني بخصائص الفرد الملاحظ.
فالنماذج
التي تهتم بحاجات الأشخاص الذين يقومون بالملاحظة، والتي تقدم غالبا مكافأة لهؤلاء
الملاحظين هي التي يتم إنتقاؤها من قبل الملاحظ، بينما يجري تجاهل تلك النماذج
التي تنقصها مثل هذه الخصائص، ونتيجة لذلك فإن الأفراد الملاحظين لابد من أنهم
يتعلمون بالملاحظة من النوع الأول أكثر من النوع الثاني.
وخاصية
أخرى من خصائص الأشخاص الملاحظين التي تؤثر على الإنتباه هي مستوى النمو (فالأطفال
الأكبر سنا لديهم مدى إنتباه أطول من الأطفال الأصغر سنا. وبالإضافة لذلك فالأطفال
الأكبر سنا قد يعرفون متى ينتبهون ومتى لا ينتبهون للنموذج.)
3 - التطبيقات التربوية:
-
هذه النظرية تساعد على مراجعة أساليب نمذجة السلوك والتنشئة الاجتماعية ومراجعة
الأدب التربوي والنفسي.
-
التعلم بالملاحظة يساعد على إكساب سلوكات جديدة نتيجة ملاحظة النماذج التي
يعايشها التلميذ سواء من خلال الزملاء أو المعلمين أو النماذج التي يقرأ عليها في
النصوص المدروسة مثلا ولذا فمراقبة هذه النماذج يعتبر أمرا مهما لكل من يقف عمله
على التربية والتعليم.
-
إذا كانت عملية النمذجة هي نسخ سلوك آخرين مهمين للمتعلم مثلا فان مراعاة التعزيز
في العملية التربوية يعتبر أمرا ضروريا.
-
تساعد عملية التعلم بالملاحظة في تعلم العادات الإجتماعية
أي ثقافة المجتمع وإكساب اللغات.
-
التلميذ الذي يتعامل مع معلمين (نماذج) مختلفين يساعده ذلك على زيادة خبراته غير
المباشرة.
*
الحقيقية أن هذه الظاهرة كان قد كشف
عنها عالم الفيزيولوجيا البلجيكي بلاتو في بداية القرن التاسع عشر. إذ توصل إلى أن
عرض الصور الساكنة بواسطة جهاز خاص جهاز stroboscope (قياس سرعة التردد) يحدد تعاقبها ويتحكم بسرعة عرضها يحمل المشاهد
إلى رؤيتها كأشياء متحركة.
- صالح محمد
علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.175. 176.
[12]- ينظر صالح محمد علي أبو جادو، علم
النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص180. 181.
Post a Comment