الحرية
الاقتصادية المقيدة
سنتكلم في هذا المبحث عن مذهب الحرية الاقتصادية ، ثم
نعرض بإيجاز الحرية الاقتصادية المقيدة في النظام الاقتصادي الإسلامي ، وتدخل
الدولة في النشاط الاقتصادي وذلك في ثلاثة مطالب .
المطلب الأول
مذهب الحرية الاقتصادية
الحرية
الاقتصادية مصطلح ارتبط استعماله بمدرسة الطبيعيين التي ظهرت في فرنسا في منتصف
القرن الثامن عشر الميلادي ، ومن رواد هذه المدرسة " كيناي " ، وهو
الطبيب الخاص للملك لويس الخامس عشر ، وقد نادت هذه المدرسة بعدد من المبادئ ،
منها :
1- خضوع الجانب الاقتصادي من الحياة لنظام طبيعي
ليس من صنع أحد ، وهذا النظام الطبيعي يحقق للناس النمو ، والرخاء ، وعلى الدولة
ألاَّ تتدخل في النشاط الاقتصادي . فمهمة الدولة في نظرهم تقتصر على توفير الأمن ،
والدفاع ، والنظام (القضاء).
2- استقلال علم الاقتصاد
عن الدين والأخلاق وسائر العلوم الاجتماعية . وعندما يقال "الدين" يقصد
به هنا الدين النصراني لأنه هو دين الأمم الأوربية التي نشأت فيها مدرسة الطبيعيين
.
3- اعتبار المصلحة الشخصية
هي الدافع الوحيد للعمل ، والكسب.
4- الاعتقاد بتوافق
المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة ، وعدم وجود تناقض بين المصلحتين (العامة
والخاصة). وفي بريطانيا ظهر ما سمي بالمذهب التقليدي ، الذي يعد " آدم سميث
" من أبرز رواده ، الذي أكد على أهمية المنافسة الحرة ، وأنها هي الأداة لتحقيق رفاه المجتمعات [1]
. و بملاحظة أفكار الطبيعيين والتقليديين
يمكن القول: انه في تلك الفترة بدأ يبرز في أوربا فكر اقتصادي يقوم على الانطلاق
من القيود الحكومية ، ففي تلك الفترة برزت المناداة بعدم تدخل الدولة في النشاط
الاقتصادي . ومن معالم الفكر الاقتصادي في تلك الفترة في أوربا المناداة بالتخلص
من قيود الدين النصراني المفروضة على علم الاقتصاد ،وعلى النشاط الاقتصادي. وهذا
جزء من التمرد على الكنيسة الذي ساد أوربا في تلك الفترة من التاريخ . وعندما طبقت
الأفكار التي نادى بها الطبيعيون و التقليديون بدأت في أوربا معالم نظام جديد يقوم
على مبادئ الحرية ، أو ما سمي فيما بعد "بالنظام الرأسمالي" ويبدو
أن أفكار التحرر الاقتصادي لم تأت بمبادرات محددة
ابتداءً ، فظهور هذه المبادئ كان ردة فعل . فمثلاً الدعوة إلى عدم تدخل
الدولة في النشاط الاقتصادي يبدو أن من أبرز أسبابه الضرر الذي لحق بالنشاط
الاقتصادي من تدخل الحكَّام في النشاط الاقتصادي ، كالضرائب العالية التي فرضت على
الفلاحين الفرنسيين ، بل وصل الأمر إلى فرض أسعار منخفضة للقمح من أجل خفض تكلفة
المعيشة . أما الدعوة إلى استقلال علم الاقتصاد عن الدين، و الأخلاق ، فهي ردة فعل
تجاه تسلط الكنيسة المتحالفة مع الحكَّام،
والتي لا تسمح بالآراء المخالفة لآرائها ، بالإضافة إلى أن تمويل نفقات الكنيسة
تحت مسميات مختلفة جزء من العبء المالي
الذي يعاني منه النشاط الاقتصادي في أوربا في تلك الفترة. أما التأكيد على أهمية
المصلحة الشخصية فيبدو أنه ردة فعل تجاه سحق شخصية الفرد في ظل نظام الإقطاع في
أوربا ، ليؤكد على أن الفرد هو الخلية الأساسية في المجتمع و أن الحرية من حقوقه
الطبيعية .
[2]
فمذهب الحرية الاقتصادية في جملته جزء من ثورة في
أوربا ضد أوضاع ، و أفكار كانت سائدة ، و بتطبيق أفكار هذا التمرد أو الفكر
الاقتصادي الحر ظهر ما يسمى النظام الرأسمالي القائم على مبادئ الحرية الاقتصادية
و أهمها : حرية التملك ، وحرية التعاقد ،
وحرية الإنتاج، وحرية تحديد الأسعار ، وحرية
التبادل ، وحرية الاستهلاك ، وحرية التصرف في الدخل والثروة . [3]
المطلب الثاني
الحرية الاقتصادية المقيدة في النظام الاقتصادي
الإسلامي :
توسط النظام الاقتصادي الإسلامي في منهجه من مسألة
الحرية الاقتصادية ، فأعطى للإنسان مجالاً واسعاً يتحرك فيه باختياره ، ليمارس
نشاطه الاقتصادي ، الذي يحقق به وظيفته على الأرض ، وهي تحقيق العبودية لله ، و
إعمار الأرض بالإستناد إلى منهج الإسلام الشامل لكل جوانب الحياة ، فلم يعانِ
الإنسان من مساوئ الانفلات الموجود في النظام الرأسمالي ، ولم يعانِ من كبت
الدوافع الفطرية الموجود في ظل النظام
الاشتراكي .
والحرية في النظام الإسلامي ليست مقصودة لذاتها ، بل
هي وسيلة لمساعدة الإنسان على تحقيق الهدف الذي خُلق من أجله ، فالوسيلة تعطى بقدر
ما يحقق الهدف ، و لهذا فالحرية الاقتصادية في النظام الإسلامي مضبوطة بضوابط
شرعية من أجل الوصول إلى تحقيق ذلك الهدف ، وهذه الضوابط أصيلة في أسس النظام
الإسلامي ، ولم تأت ردة فعل ، وإذا كان النظام الرأسمالي قد أدخل بعض التعديلات
على مبادئ الحرية قبل حوالي قرن ، فإن النظام الاقتصادي الإسلامي قد جاءت مبادئ
الحرية الاقتصادية فيه مضبوطة، وهذه الضوابط جزء من التشريع وليست اصلاحات اتضحت
الحاجة لها بعد التطبيق .
الضوابط الشرعية الواردة على النشاط الاقتصادي :-
في النظام الاقتصادي الإسلامي عدد من القيود التي تضبط
النشاط الاقتصادي ،لضمان جلب المصالح ، ودرء المفاسد للفرد والمجتمع[4] و لا يقتصر ذلك على الدنيا ، بل يشمل الدنيا و
الآخرة ، وهذه المسألة من المسائل التي يتميز بها المسلمون عن غيرهم ، حيث تتصل
عند المسلم حياته الدنيا بما بعد موته ، فلا ينصب تفكيره ،و أسلوب حياته على
الدنيا وحدها ، بل يشمل ما بعد رحيله من هذه الدنيا ، وهذا الربط بين المرحلتين
يؤثر في سلوكه الاقتصادي ، فقد ترد بعض القيود على النشاط الاقتصادي لضمان مصلحة
الفرد في الآخرة . حتى ولو لم تكن المصلحة الدنيوية من هذا القيد واضحة لكل الناس
. ومسألة المصالح المتعلقة بالآخرة تقع خارج قدرات العقل البشري ، ولهذا فالمدارس
الفكرية الاقتصادية الوضعية لا تقدم للبشرية شيئاً في هذا المجال ، بل تتجاهل هذا
الجانب ، على الرغم من وضوحه في الأديان السماوية التي تعاقبت بها الرسل ، منذ
نزول أول نبي على الأرض ، وهو آدم عليه
السلام إلى آخر رسالة سماوية نزلت وهي الإسلام ، فكل هذه الرسالات السماوية تربط
بين الحياتين: الدنيوية والأخروية ، وتجعل الأولى فترة استعداد للحياة الآخرة .
ولتحقيق تلك الغاية السامية ( جلب المصالح ودرء
المفاسد ) جعل النظام الاقتصادي الإسلامي قيوداً لضبط النشاط الاقتصادي ، منها :
(أ) تطبيق أحكام الإسلام في الحلال والحرام ، ولذلك
صور كثيرة ، منها :
1- تحريم إنتاج واستهلاك السلع والخدمات الخبيثة
المضرة بالإنسان ، فحرية الإنتاج ، والاستهلاك تقع داخل دائرة الحلال ،
أما السلع و الخدمات الخبيثة المحرمة فهي ممنوعة . وقد تكون السلع المحرمة منصوصاً
عليها كالخمر ، ولحم الخنزير ، وقد يكون منصوصاً على وصفها بأنها خبيثة أو مضرة
فيأتي دور المجتهدين في تعيين ما ينطبق عليه الوصف المذموم . وهذا التحريم ليس من
صلاحية البشر بل هو لله ، فالذي خلق البشر هو الذي يعرف ما يضرهم و ما ينفعهم ،
وقد حذر الله من التحليل و التحريم بغير علم. وتطبيق هذا القيد (الحلال و الحرام )
له آثار اقتصادية ايجابية ، وتجاهله له عواقب وخيمة . و أهم الآثار الايجابية
لتطبيق قيد (الحلال و الحرام ) :
أولاً : المحافظة على الضروريات التي
لا تستقيم حياة المجتمع إلاَّ بها ، وهي: حفظ الدين ، والنفس، والعقل ، والنسل ،
والمال فهذه الضروريات جاءت كل الرسالات السماوية لحفظها.
ثانياً
: زيادة رفاهية المجتمع ، وتمتعه بالسلع و
الخدمات النافعة ، وذلك لأن هذا القيد يوجه الموارد المتاحة لتوفير الطيبات ،
ويستبعد الخبائث المضرة ، أما إهمال هذا القيد فنتيجته العكس تماماً . فالمجتمع
الذي يهمل ، أو يقصر في تطبيق قيد ( الحلال والحرام ) يلحق الضرر بالضروريات
المذكورة ، مما يعرض المجتمع إلى الخطر ولو بعد حين ، وفي الوقت نفسه تهدر الموارد
المحدودة في توفير سلع وخدمات مضرة ، و يحرم
المجتمع من سلع وخدمات طيبة نافعة . و الأمثلة على ذلك كثيرة ، ومنها الإنفاق على
المخدرات ، ([5])
فهي ثالث تجارة بعد النفط والسلاح ، وتقدر بحوالي 8٪ من حجم التجارة العالمية ،
وينفق على مكافحة المخدرات حوالي (120) مليار دولار سنوياً . أما الخسائر البشرية
فحوالي (7) ملايين شخص يموتون سنوياً بسبب الخمر
و التدخين و المخدرات . وفي أحدى الدول الإسلامية جاء في دراسة لهيئة رسمية
أن الإنفاق على المخدرات في تلك الدولة سنة 2003 م قد بلغ
( 18.4) مليار جنيه مصري ، وأنه يتزايد بمعدل مليار جنيه مصري سنوياً . و أن (36%) من طلاب المرحلة الثانوية يتعاطون المخدرات .
( 18.4) مليار جنيه مصري ، وأنه يتزايد بمعدل مليار جنيه مصري سنوياً . و أن (36%) من طلاب المرحلة الثانوية يتعاطون المخدرات .
و يحدث هذا على الرغم من أن دول العالم تكاد تتفق من الناحية
الرسمية على مكافحة المخدرات ، فقيد (الحلال و الحرام) ليس قراراً رسمياً فحسب ،
وإنما هو أيضاً وقبل كل شي سلوك يتربى عليه الناس ، فيحفظ لهم مقومات مجتمعهم ،
ويوفر لهم المزيد من الطيبات .
2- تحريم طرق الكسب غير المشروع
كالربا ، و الغرر ، و الغش بأشكاله المختلفة كالرشوة، و التزوير ، وغير ذلك مما نص
على تحريمه ، أو أنه مما يلحق الضرر بالمجتمع .
(ب) الالتزام بعدد من الواجبات الشرعية الاقتصادية :
فهناك
قدر من حرية تصرف الإنسان في دخله ، وثروته ولكن يرد على ذلك قيود ، ومنها أنه ملزم بالإنفاق في بعض الأوجه
و لا خيار له في ذلك إذا تحققت الشروط الشرعية ،
ومن هذه الأوجه أداء الزكاة ، و نفقة الأقارب، و نفقة الزوجة و الأولاد
وغيرها.
(ج) الحجر على السفهاء و الصبيان و المجانين :-
يقصد بالحجر في اللغة المنع و التضييق ، وفي الشرع
يقصد به ( منع الإنسان من التصرف في ماله ).[6]
والأصل حرية الإنسان في تصرفه بماله بكل أنواع
التصرفات الشرعية كالبيع ، والهبة ، والصدقة ، وغيرها ، ولكن قد يطرأ ما يبرر
الحجر عليه بمنعه من تلك التصرفات . وهذا من حكمة الله وعدله ، فالمال أحد
الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع السماوية لحفظها . فحفظها من المصالح الضرورية
، أما الحرية الفردية فليست مقصودة لذاتها بل تتبع المصلحة[7]
، ومتى تعارضت الحرية مع المصلحة تُقيَّد الحرية ، بما يخدم المصلحة ، ومن ذلك
الحجر . وهو قسمان :
القسم الأول : فهو حجر لمصلحة الغير،كالحجر على المفلس
لمصلحة الغرماء، فبهذا القيد الشرعي على حرية التصرف في المال ، يتم الحجر على
المفلس
الذي يعجز ماله عن الوفاء بديونه الحالة ، وذلك حفظاً لمصالح الغرماء
بحفظ أموالهم ، وتوزيع الموجود من أموال المدين بين غرمائه بالعدل . ويحجر على المريض بألاَّ يتبرع بما يزيد على ثلث ماله حفظاً لحق الورثة .
الذي يعجز ماله عن الوفاء بديونه الحالة ، وذلك حفظاً لمصالح الغرماء
بحفظ أموالهم ، وتوزيع الموجود من أموال المدين بين غرمائه بالعدل . ويحجر على المريض بألاَّ يتبرع بما يزيد على ثلث ماله حفظاً لحق الورثة .
القسم الثاني : فهو حجر على إنسان لمصلحة نفسه ، وهو
الحجر على السفيه، والصبي ، والمجنون .
أما السفيه فهو "ضعيف العقل و سيء التصرف"[8]
، و يُحجر عليه إذا ظهر منه التبذير لماله . أما الصبي فهو من كان دون البلوغ .
أما المجنون فهو فاقد العقل . فهؤلاء الثلاثة تقيد حريتهم فيمنعون من التصرف في
أموالهم بالبيع، وبالتبرع ، وبالإجارة ونحو ذلك ، ويمنعون أيضاً من التصرف
في ذممهم ، فلا يتحملون في ذممهم ديناً أو ضماناً أوكفالة أو نحو ذلك.[9]
وفي الأحوال العادية يُوكل حفظ كل مال إلى صاحبه، و له حرية التصرف في حدود
المصلحة، أما إذا كان صاحب المال عاجزاً عن تحقيق المصلحة لسفه ، أو جنون ، أو صغر
فذلك موكول لوليه . ولا يرفع عنهم الحجر ، وتعاد لهم حرية التصرف ، إلاَّ بزوال
سبب الحجر . فيرفع عن الصغير ببلوغه ، وثبوت رشده . ويرفع عن المجنون برجوع عقله،
وثبوت رشده أيضاً ، أما السفيه فيرفع عنه الحجر إذا اتصف بالرشد وهو" الصلاح
في المال "[10]
أي حسن تدبير ماله ، وعكسه السفه في المال بسوء تدبيره .
ويلاحظ هنا حرص الإسلام على حفظ المال ، حيث يحجر على
من لا يحسن تدبير ماله الخاص ، وتقيد حريته في التصرف بماله ، فماذا عن الذين
يسيئون التصرف في مال الأمة [11]
؟ لاشك أن المسئولية تجاه المال العام
أعظم،وإثم تضييعه أشد،
عند ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة قد تتعارض
المصالح ، ومن المواطن التي تقيد فيها الحرية الفردية ، إذا تعارضت مصلحة الفرد مع
مصلحة المجتمع فتقدم مصلحة المجتمع . ومن أمثلة ذلك منع الاحتكار بمعناه الشرعي ،
الذي يقصد به الامتناع عن بيع سلعة أو خدمة مما يؤدي منعه إلى الأضرار بالناس .
كأن يتوقف التجار الذي يبيعون بعض السلع الضرورية عن البيع ليرتفع السعر ، فهذا هو
الاحتكار المنهي عنه في قوله × (من احتكر فهو خاطيء).([13])
فالأصل أن الإنسان حر في البحث عن مصلحته ، و ارتفاع السعر من مصلحة التجار الذين
بحوزتهم بضاعة ، ولكن إذا تعارضت مصلحة هؤلاء الأفراد مع مصلحة المجتمع ، تُقدم
مصلحة المجتمع ، فيحرم الاحتكار لأنه يلحق الضرر بالمصلحة العامة .
وهذه الأمثلة السابقة للقيود الشرعية الواردة على
الحرية الاقتصادية في النظام الاقتصادي الإسلامي قيود ثابتة ، يتربى عليها الإنسان
المسلم ،ويلزمه الالتزام بها ، ويضاف إلى ذلك أن الدولة تضمن تطبيقها كما تضمن
تطبيق بقية جوانب الشريعة الإسلامية كأداء أركان الإسلام وغيرها . ويضاف إلى هذه
القيود قيود أخرى تنتج عن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لأداء وظائفها
الاقتصادية .
Post a Comment