ترجمة الإمام ابن كثير:
ترجمة ابن كثير:
ونشرع
الآن في كلامنا عن الكتاب المقرَّر في تفسير كتاب الله -عز وجل-. ونستهلّ حديثنا بترجمة
موجزة لمؤلِّفه -رحمه الله- تعالى وأجزل له المثوبة، فنقول:
ــ
هو: الحافظ عماد الدِّين أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء
بن درع القرشي، القيسي، العبسي، البُصروي -نسبة إلى بصرى الشام-، الدمشقي.
ولد
سنة (701هـ)، في مجيدل القُرَيَّة من أعمال بُصرى.
نشأ
في أسرة علْم وفضل؛ فقد كان أبوه الخطيب شهاب الدِّين أبو حفص عمر بن كثير، من العلماء
الفقهاء الخطباء. توفّي عنه، وهو ابن ثلاث أو نحوها، فاتَّجه إلى الطلب في وقت مبكّر
مِن حياته، على يدي أخيه عبد الوهاب، وأكمل حفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز العاشرة مِن
عمره على شيخه شمس الدِّين البعلبكي، وقرأ بالقراءات، حتى عدّه الداودي من القرّاء،
وترجم له في طبقاتهم التي ألّفها.
وسمع
الحديث من كثير من أئمّة الحفّاظ في عصره، وعني بالسماع والإكثار منه. وقرأ على صهره
الحافظ المزّي مؤلَّفَه العظيم في الرجال: "تهذيب الكمال"، وغيره... كما
حفظ المتون المتنوّعة في العلوم الشرعية. وكان صحيح الذهن، كثير الاستحضار، قليل النسيان.
وهكذا
لزم ابن كثير -رحمه الله- الاشتغال بطلب العلْم، ودأب وحصل وكتَب، حتى برع في علوم
كثيرة، وصار يشار إليه بالبنان، ولما يزلْ شابًا؛ وهذا من فضل الله عليه، إذ هيّأ له
أسباب تحصيل العلْم، ويسّر له سُبله.
ــ
رحلته:
والرحلة
في طلب العلْم من سِمات العلماء، وهي همّ لبعضهم، طلبًا للعلوّ في الإسناد. وعلى الرغم
من كون الحافظ ابن كثير لم يشغل نفسه بهذا المطلب، لقلّة أهميّته في العصور المتأخِّرة،
فقد سافر إلى عدّة بلاد الْتقى فيها بأهل العلم، فاستفاد وأفاد. ومن البلاد التي وطئتها
قدمه بعد دمشق التي استوطنها: القدس، ونابلس، وبعلبك، والقاهرة. وقد سافر إلى الحجاز
سنة، حيث أدّى فريضة الحج في جمْع من علماء دمشق.
ــ
زواجه وذرِّيّته:
صحب
ابن كثير محدّث الديار الشامية في عصره: أبا الحجاج جمال الدِّين يوسف بن عبد الرحمن
المزّي، إمام الحفّاظ، ولازمه، وصاهره؛ فتزوج ابنته زينب، وكانت هي وأمّها قد حفظتا
القرآن على الشيخة الصالحة: أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية. ورزقه الله منها عددًا
من الأولاد، أكبرهم: الشيخ عز الدِّين عمر بن إسماعيل بن عمر بن كثير، عني بالفقه،
وكتب تصانيف أبيه. وهو الذي نسخ لأبيه نسخة "المُسند" التي جعلها أصلًا في
تأليف "جامع المسانيد".
ــ
شيوخه:
وقد
بدأ الاشتغال على يدي أخيه: عبد الوهاب -كما قدّمنا-؛ فهو أول شيوخه. وصحِب جمال الدِّين
أبي الحجاج يوسف المزّي، ولازمه وصاهره.
وكان من أعظم تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية
الحرّاني، ولازمه، وتخرّج على يديه. وكانت له به خصوصيّة ومناضلة عنه، واتّباع له في
كثير من آرائه. وكان يفتى برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأُوذي. ولمّا مات
شيخ الإسلام بسجن القلعة -رحمه الله-، لم يسمح لأحد بالدخول أول الأمر إلاّ لخواصّ
أصحابه، فكان ابن كثير منهم. قال: "وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجّاج
المزّي -رحمه الله-، وكشفت عن وجه الشيخ وقبّلته، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة، وقد
علاه الشيب أكثر ممّا فارقناه".
وتفقّه
على الشيخيْن: برهان الدِّين الفزاري بن الفركاح، وكمال الدِّين ابن قاضي شهبة، وغير
هؤلاء كثير، تقدّم بعضهم. كما أجاز له جماعة من أهل العلّم من مصر وبغداد وغيرها...
ــ
تلاميذه:
أما
تلاميذه، فقد قال ابن العماد: وتلامذته كثيرة، ومن أراد الاستقصاء فيمكنه أنْ يجمع
عددًا كبيرًا، منهم عن طريق الإجازات والمشيخات، وتتبّع مصنَّفات أهل العلْم في عصره.
وقد استطاع الدكتور مسعود الندوي أن يحصي منهم أربعة عشر تلميذًا، وقال: في حين لم
تأت الإشارة إلاّ إلى واحد منهم عند مَن ترجموا لابن كثير قبلنا.
وسوف
أذكر هنا منهم خمسة مِن الأئمّة الأعلام، تتلمذوا على هذا العَلَم، ومَن أراد الاستزادة
فعليه بكتاب الندوي. وهم:
-
الإمام سعد الدِّين بن يوسف بن إسماعيل بن يونس النواوي، قدم دمشق صغيرًا، وقرأ على
ابن كثير كتابه في علوم الحديث، وأذِن له بالفتوى.
-
الإمام ابن حجّي.
-
الإمام الزّركشي.
-
الإمام الحسيني، صاحب "ذيل تذكرة الحفّاظ".
-
الإمام ابن الجزري، وهو ممّن أذن له ابن كثير في الفتوى.
ــ
أعماله ونشاطه العلمي:
تنوّعت
أعمال الحافظ ابن كثير نظرًا لموسوعيّته وعلوّ منزلته العلْمية. وممّا قام به من جهود
علْمية اشتهر بها:
-
الإقراء:
برز
الحافظ ابن كثير في هذا الجانب العلْمي، وولي مشيخة الإقراء بمدرسة أمّ الصالح، كما
ذكر النعيمي. وترجم له الداودي في "طبقات القراء". وقد ظهر أثر علْم ابن
كثير بالقراءات في غضون تفسيره، وهو غالبًا ما يعتمد قراءة نافع ومَن وافقه، وينبّه
على وجوه القراءات الأخرى كما هو مثبَت في موضعه، ويأتي الحديث عنه في دراستنا للتفسير.
-
التّحديث والإجازة:
وهذا
الجانب أملاه المنزلة السامقة لابن كثير في الحديث وعلومه؛ فقد كان حافظًا مِن حفّاظ
هذه الأمّة لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخذ الحديث عن جماعة من أهل العلْم
-كما تقدّم- سماعًا وإجازة، وحدّث وأفاد، وأسمع الحديث، وأجاز؛ حتى إنه أجاز كلّ مَن
أدرك حياته، كما ذكر الحافظ ابن حجر.
ومن
أخبار إجازاته: أنّ شابًا أعجميًا حضر من بلاد تبريز وخراسان، وزعم أنه يحفظ البخاري
ومسلمًا، وجامع المسانيد، و"الكشاف"، وغير ذلك... فامتحنه ابن كثير بحضرة
جماعة في مجالس، من البخاري وغيره، ثم كتب له بالسماع على الإجازة، ففرح بذلك، وقال:
"أنا ما خرجت من بلادي إلا للقصد إليك وأن تجيزني، وذكرك في بلادنا مشهور".
-
التّدريس:
قعد
الحافظ ابن كثير للتّدريس إلى آخر عمره، وانتفع به خلق كثيرون، ودرّس علومًا عدّة،
منها: التفسير والفقه. وقد بدأ التدريس في المدرسة النجيبية.
كما
كان يدرّس التفسير في الجامع الأموي، ومن ذلك: ما حدث في يوم 28 شوال سنة (767 هـ)،
حيث قعد لدرس التفسير الذي أنشأه ملك الأمراء نائب السلطنة: الأمير سيف الدين. واجتمع
فيه القضاة والأعيان، وأخذ في تفسير (الفاتحة)، وكان يومًا مشهودًا. وخصّص الأمير منحة
للطلاب الذين يحضرون الدرس.
وقد
تولّى الحافظ ابن كثير مشيخة عدّة مدارس، ومن ذلك:
مشيخة
مدرسة أمّ الصالح، مشيخة دار الحديث، وهي دار الحديث الأشرفية بدمشق، مشيخة التنكزية،
واسمها: دار القرآن والحديث.
كما
كان -رحمه الله- يقوم بامتحان الطلّبة، ومن ذلك: امتحانه صبيًا عمره ست سنوات كان يحفظ
القرآن، ويصلّي بالناس في رمضان، فوجده مُجيدًا للحفظ والأداء على الرّغم مِن صغر سنّه.
-
الإفتاء:
برز
الحافظ ابن كثير في هذا الجانب، ولا غرو، فهو إمام من أئمة الشافعية غير أنه لم يكن
متقيِّدًا بالمذهب، وإنما كان يدور مع الدليل حيث دار. وقد طارت أوراق فتاواه إلى البلاد،
كما قال ابن حبيب. ووصفه شيخه الذهبي بالفقيه المفتي. وكان يأذن لغيره بالإفتاء كما
تقدّم ذكْره من إذنه للنواوي والجزري.
-
مؤلَّفاته:
لقد
تفرّغ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في حياته للتأليف والتصنيف، إلى جانب ما كان يقوم
به من الأعمال الكثيرة في خدمة الدِّين والأمّة الإسلامية؛ ولذلك خلَّف كتبًا كثيرة
في شتّى مجالات العلْم والمعرفة، ووصف الحافظ الحسيني مصنَّفاته فقال: "وله تصانيف
مفيدة". وسبق قول الحافظ ابن حجر العسقلاني: "سارت تصانيفه في البلاد في
حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته".
وكان
من أوائل ما صنّف في شبابه -ولعلّه أوّل كتاب ألّفه-: "أحكام التنبيه". ولمّا
اطلع عليه شيخه البرهان الفزاري، أعجبه وأثنى عليه. وقد ذكر له بعض مَن ترجم له حوالي
أربعين مؤلَّفًا، أكثرها مفقود.
ومِن
أهمّ مؤلَّفاته: "تفسير القرآن العظيم"، الذي نحن بصدد الدراسة منه، وكتابه
"البداية والنهاية" في التاريخ، وكتاب "جامع المسانيد والسُّنن"،
و"شمائل الرسول، ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه"، و"فضائل القرآن، وتاريخ
جمعه وكتابته ولغاته"؛ وهي مطبوعة.
ــ
مميّزاته:
(1)
القدرة على الحفْظ: فقد وهبه الله -عز وجل- حافظة متميّزة وموهبة متفوّقة.
(2)
كثرة الاستحضار: اقترنت صفة الحفْظ عند ابن كثير -رحمه الله- بميزة أخرى، وهي كثرة
الاستحضار وقلّة النّسيان.
(3)
جودة الفهْم: حيث كان -رحمه الله- صحيح الذّهن، قادرًا على الاجتهاد والدِّقّة العلْمية؛
ومن هنا كانت له آراء واجتهادات وترجيحات.
(4)
خفّة الروح: وقد جاءت هذه الصِّفات على لسان المترجِمين له، إذ قالوا: "كان -رحمه
الله- كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيّد الفهم، صحيح الذّهن، حسن المفاكهة".
(5)
القوّة في الحقّ والمناضلة عنه: فقد كان -رحمه الله- قويًا في الحقّ، مناضلًا عنه،
متحمِّلًا الأذى في سبيله، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقد جاء في ترجمته: أنه كانت
له خصوصية بابن تيمية، ومناضلة عنه، واتباع له في كثير من آرائه. وكان يفتي برأيه في
مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأوذي.
(6)
إنصافه للخصوم وعدْله معهم:
-
ففي حوادث سنة (727هـ)، يترجم لوفاة الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ترجمة وافية ومنصفه،
مع أنه كان خصمًا لابن تيمية ومَن يناصره، ومنهم ابن كثير نفسه.
-
وكان بين ابن كثير -رحمه الله تعالى- وبين قاضي القضاة تقي الدِّين السّبكي خصومة فكريّة.
وتشاء الظروف أن توجّه اتهامات عليه في التفريط في أموال الأيتام، وطلب مِن المُفتين
أن يضعوا خطوطهم بتثبيت الدعوى ضدّه، لترغيمه ومحاكمته. ويصل الأمر إلى صاحبنا العلامة
ابن كثير ذي الخلُق الكريم، والموقف العادل، فيأبى الكتابة، ويُنصف قاضي القضاة، ويوقف
الافتراء والاتّهام إلى أن يتبيّن الحقّ.
ــ
مكانته العلّمية، وثناء العلماء عليه:
تبوّأ
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في حياته مكانة علّمية مرموقة، وحاز مِن ثناء العلماء
مِن معاصريه فمَن بعدَهم، ما يدلّ على فضله وتقدُّمه في العلْم والأدب والعبادة. وتتجلّى
مكانة ابن كثير ومنزلته العلْمية من ناحيتيْن:
الأولى:
من خلال ما ترَكَه من ثروة علْمية، وتآليف نافعة.
الثانية:
شهادة العلماء له، وخاصّة الذين عاصروه، سواء أكانوا شيوخًا له أم تلاميذ.
قال
الإمام الذهبي -وهو في طبقة شيوخه-: "وسمعت مع الفقيه المفتي المحدِّث ذي الفضائل:
عماد الدِّين بن إسماعيل بن عمر البصروي الشافعي ...، وله عناية بالرجال والمتون والتفقّه،
خرّج وألّف، وناظر وصنّف، وفسّر وتقدّم". وقال أيضًا في "المعجم المختص":
"فقيه متفنِّن، ومحدِّث مُتقن، ومُفسِّر نقّاد".
وقال
الحافظ أبو المحاسن الحسيْني: "الشيخ الإمام، الحافظ، المفيد، البارع، عماد الدِّين
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير... صاهر شيخنا الحافظ المزّي، فأكثر عنه، وأفتى
ودرس وناظر، وبرع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن النظر في الرجال والعلل...".
وقال
الحافظ ابن ناصر الدِّين الدمشقي: "الإمام العلامة الحافظ، عماد الدِّين، ثِقة
المُحدِّثين، عمدة المؤرِّخين، علَم المفسِّرين، أبو الفداء...".
وقال
الحافظ ابن حجر العسقلاني: "واشتغل بالحديث، مطالعة في متونه ورجاله، فجمع التّفسير...
وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة. سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس
بعد وفاته...".
ــ
عقيدته:
كان
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- سلفيّ العقيدة، سائرًا على منهج أهل السُّنّة والجماعة
في تقرير مسائل العقيدة، والاستدلال عليها.
ــ
منهج ابن كثير في كتابه:
يُعتبر
تفسير ابن كثير مِن خيْر كُتب التفسير، واحتلّ مكانة مرموقة في الكُتب الإسلاميّة،
وشهد له العلماء بذلك. وذاع صيت هذا الكتاب، وتداولتْه الأيدي قديمًا وحديثًا، على
مختلَف المستويات.
يقول
السيوطي: "له التفسير الذي لم يؤلَّف على نمطه مثلُه".
ويقول
الشوكاني: "وله تصانيف مفيدة، منها: "التفسير" المشهور، وهو في مجلّدات،
وقد جمع فيه فأوعى، ونقل المذاهب، والأخبار، والآثار، وتكلم بأحسن كلام وأنفسه؛ وهو
من أحسن التفاسير".
ويقول
الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر: "فإنّ تفسير ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا،
وأجودها وأدقّها، بعد تفسير إمام المفسّرين أبي جعفر الطبري".
لقد
عني الباحثون بتسليط شيء من الضوء حول منهج ابن كثير في تفسيره، ومن تلك الدراسات ما
تقدّم ذكْره في ترجمة الحافظ عن كتاب "الإمام ابن كثير المفسر"، للدكتور
مطر الزهراني.
ومن
ذلك أيضًا:
-
"ابن كثير ومنهجه في التفسير" للدكتور إسماعيل عبد العال، بمصر، ولم أقف
عليه، ويبدو أنه رسالة جامعية.
-
"موقف الإمام ابن كثير من الإسرائيليات في ضوء تفسيره"، للباحث محمد إبراهيم
تراوري؛ وهو رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية سنة (1405هـ).
-
"استدراكات ابن كثير على ابن جرير"، للدكتور أحمد عمر عبد الله، وهو رسالة
دكتوراه بالجامعة الإسلامية، وغيرها...
وقد
رسم ابن كثير منهجه، وحدّد أصوله في مقدمة التفسير، وتبنّى كلام شيخه شيخ الإسلام ابن
تيمية في "مقدّمته في أصول التفسير"، حيث نقله بنصّه، وحاول التزامه في كتابه.
فممّا
قاله في تفسير القرآن بالقرآن:
"فإن
قال قائل: فما أحسنُ طُرُق التفسير؟ فالجواب: إنّ أصحّ الطُّرق في ذلك: أن يفسَّر القرآن
بالقرآن: فما أجمل في مكان، فإنه قد بسط في موضع آخر".
ثم
في تفسير القرآن بالسُّنّة يقول، وقد صوّر ابن كثير هذا الأصل بقوله: "فإن أعياك
ذلك، فعليك بالسُّنّة؛ فإنها شارحة للقرآن وموضِّحة له".
ثم
في تفسير القرآن بأقوال الصحابة، يقول: "إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في
السّنّة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة؛ فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن
والأحوال التي اختصّوا بها، ولِمَا لهم من الفهم التّامّ، والعلْم الصحيح، والعمل الصالح،
لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديِّين،
وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-... ومِن هؤلاء: البحْر الحَبر عبد الله بن عباس،
ترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قال: ((اللهُمّ فقِّهْهُ
في الدِّين، وعلِّمْه التأويل!))".
ثم
في تفسير القرآن بأقوال التابعين، يقول ابن كثير: "إذا لم تجِد التفسير في القرآن،
ولا في السُّنّة، ولا وجدتَه عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى قول التابعين،
كمجاهد ابن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير. ونقل عن محمد بن إسحاق، عن مجاهد قول:
"عرضت على ابن عباس ثلاث عرضات مِن فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كلّ آية منها،
وأسأله عنها".
وقال
سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به!
ومن
التابعين: سعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري،
ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيِّب، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك
بن مزاحم، وغيرهم... وهؤلاء تُذكر أقوالهم في الآية، فيقع في عبارتهم تباين في ألفاظ
يحسبها من لا علم عنده اختلافًا، فيحكيها أقوالًا وليس كذلك؛ فإنّ منهم: مَن يعبر عن
الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم: مَن ينص على الشيء بعيْنه، والكلّ بمعنى واحد في أكثر
الأماكن، فليتفطّن لذلك والله الهادي".
وأمّا
موقفه من تفسير القرآن بالرأي، فقال: "فأمّا تفسير القرآن بمجرّد الرأي، فحرام".
وذكر حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن قال في القرآن برأيه، فلْيتبوَّأْْ
مقعده من النار!))، وذكر تحسين الترمذي له. ثم ساق آثارًا عن السلف الصالح تُفيد تحرّجهم
عن التفسير.
ويعلّق
ابن كثير على هذه الآثار، فيقول: "فهذه الآثار الصحيحة، وما شاكلها عن أئمة السلف،
محمولة على تحرّجهم عن الكلام في التفسير بما لا علْم لهم فيه، فأمّا مَن تكلّم بما
يسلم من ذلك، لغة وشرعًا، فلا حرج عليه".
أمّا
موقفه من الإسرائيليّات، فقد قسّمها أقسامًا ثلاثة، فقال:
"أحدها:
ما علِمنا صحته بما بأيدينا، ممّا يشهد له بالصِّدق، فذاك صحيح.
والثاني:
ما علِمنا كذبه ممّا عندنا ممّا يخالفه.
والثالث:
ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذِّبه، ويجوز
حكايته".
ويتحدّث
عن القسم الثالث في موضع آخر، فيقول: "ومنها ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون عنه
في روايته، بقوله -عليه السلام-: ((حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج))، وهو الذي لا
يصدّق ولا يكذّب، لقوله: ((فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم))".
ويستطرد
في هذا الشرح فيقول: "وغالب ذلك ممّا لا فائدة فيه تعود إلى أمْر دينيّ".
ومِن
أمثلة نقْده لبعض الإسرائيليّات: ما أورده ابن كثير عن سعيد بن المسيِّب، وعكرمة، والقرظي.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، وعقّب عليه قائلاً:
"فإن هذا كلّه مِن خرافات الإسرائيليِّين، مِن وضْع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك
عقول الجهلة مِن الناس أن تصدّقهم في جميع ذلك".
أمّا
الفقه، فلم يكن يفرّع المسائل الفقهية ويستطرد فيها، كما يفعل القرطبي مثلًا في
"تفسيره"؛ بل كان يعرضها بإيجاز شديد، ويُحيل أحيانًا كثيرة إلى كتابه:
"الأحكام الكبرى"، وغيره... لكنه مع هذا كلّه، استطرد في بعض المسائل التي
يأتي ذكر بعضها أثناء الدراسة -إن شاء الله-.
ومِن
الملاحظ أيضًا: أنّ مُعظم مصادره الفقهية شافعية المذهب، كـ"الأم" للشافعي،
و"شرح المهذّب" للنووي، وغيرها... وقد أفاد ابن كثير من آراء المذاهب الأخرى
وكتبها، ورجح بعض هذه الآراء على مذهبه، لأنّ الدليل الصحيح كان معه.
Post a Comment