الاعتراف في التوبة الخالصة لله
التوبة في جوهرها النفسي اعتراف لله، وهي دعاء هامس بين الإنسان وربه،
يعترف التائب اعترافاً واضحاً صريحاً بذنوبه وخطاياه، عن رغبة صادقة. لا يكتمها
ولا يصر عليها، يفرغ بها محتوى نفسه،
خباياها، خطاياها، وما هو أخفى من ذلك لا يكتم شيئاً ولا يضمره ولا يحقره مهما كان
صغيراً أو مستتراً وهذه هي توبة الإسلام النصوح.
إنه يطرح هذه الذنوب عن كاهله، ويدفعها بعيداً عن نفسه، فلا يختزنها
لتتعايش معها مشاعر الندم، فلطالما جثمت على صدره، بما فيها من معالم الهم والضيق
نتيجة ما احتوته من سوء الفعل وانحطاط الغريزة، واستبداد الشهوة . هذا هو ما يتحقق
بالتوبة في الإسلام. فهي في جوهرها اعتراف مطلق لله سبحانه، محاسبة نفس-إقرار
بالذنب-إحساس بالندم-خضوع لله واستسلام لتعاليم شريعته ومنهج دينه-وعهد وتصميم على
عدم العودة، إنها الصدق مجسداً بين العبد وربه، ولا وساطة فيها وهو وحده الذي يعلم
صدقها في النفس فهي سر بين العبد وربه.
فهل هذا الصدق في الاعتراف في التوبة الخالصة لله وحده هو ما يحدث عندما
يعترف الإنسان للكاهن أو الطبيب؟
ولننظر إلى حقيقة هذا الاعتراف عندما يستسلم المريض لطبيب النفس، بمعنى أن
يترك الطبيب للمريض حرية الحديث عن صراعات نفسه بأسلوب التداعي الحر Free assosiation بمفهوم التحليل النفسي، ليصل الطبيب بحديث المريض إلى مطلق الصراع
في نفسه.
فالمريض يكتم ذكرياته المؤلمة بعملية لا شعورية هي الكبت Repression أو القمع Suppression،
والكبت
والقمع من تعبيرات مدرسة التحليل النفسي بمعنى أن كل ما هو سيئ مذموم من سلوك
البشر يحاول الإنسان أن يخفيه في ظلمات النفس بعملية الكبت والقمع، حتى لا يؤرق
صاحبه، لأن ما يختفي في النفس لا يهدأ ولا يستقر ويتحرك في داخلها بعنف، وقد يفصح
عن نفسه عندما يخرج مقنعاً مع الأحلام أو مع زلات القلم واللسان.
والصراعات في داخل النفس البشرية إن لم تجد لها متنفساً للخروج لتعلن عن
نفسها فهي تصيب الشخص بأعراض المرض النفسي في صورة القلق والوساوس والمخاوف والضيق
وعدم الاطمئنان، وهذا ينعكس بصورة واضحة على سلوك المريض الذي يفقد الكثير من
نشاطه واهتماماته، ولا مناص من أن يُعرض على طبيب النفس الذي يحاول أن يستخرج
مخزون الصراع في نفس المريض، وهو ذكريات مؤلمة لا يحب الشخص أن يذكرها .
وهو يحسب أنه قد نسيها أو نجح في إخفائها، ولكنها تعيش في داخله لا تهدأ
ولا تستقر، وتصيبه بالمرض أو العلة النفسية في أي صورة من صورها المتعددة، ومهمة
الطبيب النفسي أن يدخل في نفس مريضه ويسير
في متاهاتها ويحاول أن يصل إلى حقيقة الصراع الناتج عن مجموعة من المتناقضات وكمّ
هائل من الرغبات والشهوات ينازع بعضها بعضاً، فالصراع يكون بين الفضيلة والرذيلة
بين الصدق والكذب، بين الصراحة والنفاق، بين الأمانة والخيانة ،بين المحبة والغيرة
، بين المودة والحسد ، بين الصفح والعدوان أو بين العفو والانتقام، وخلاصة ما ينهي
الصراع هو الصراع الأبدي بين التقوى والفجور, ومهمة الطبيب المتخصص أن يصل إلى
حقيقة هذه المتناقضات وكيف تتصارع في نفس صاحبها , ولا يمكن للطبيب أو غيره أن يصل
إلى أسرار النفس إلا من خلال اعتراف صاحبها , ولهذا فإن بداية المعالجة النفسية هي
الوصول إلي خبايا النفس بالاعتراف الصادق , وهذا ليس أمرًا سهلا , كما يظن البعض ,
بالاعتراف بخبايا النفس بمدرسة التحليل
النفسي يستغرق وقتًا وجهدًا، والتحليل
العميق ربما يستمر سنين طويلة , والسبب هو أن النفس البشرية محاطة بأغطية كثيفة من
الغموض تختفي تمامًا عن صاحبها , والإنسان سواء كان سليمًا أو مريضًا لا يعرف ما
يختفي في داخل نفسه من متناقضات وأسرار
ورغبات وخبايا , فإذا عرف الإنسان شيئًا عن صراعاته فهذه أسرار النفس اللوامة
لأنها قريبة من العقل الواعي، أما أسرار النفس الأمارة فهي في عالم مظلم شديد
العتامة تكمن فيها الغرائز وتكمن فيها
الصفات الحيوانية كلها التي قال بها الإمام ابن القيم رحمه الله , وهي مجموعة من
المتناقضات محاطة بأسوار وحواجز يصعب اختراقها , والطبيب المختص في التحليل النفسي
هو الذي يتعلم كيف يخترق هذه الحواجز، لأنه هو نفسه قد تعرض للتحليل , وعرف كيف
يتعامل مع هذه السلسلة من الدفاعات النفسية التي تحيط بالنفس البشرية
Post a Comment