المنهج الاستردادي

من المعروف أن الوقائع التاريخية تختلف عن العلوم التجريبية، حيث إن العلوم التجريبية قابلة للإعادة من خلال إعادة التجربة، بينما الوقائع التاريخية لا يمكن إعادتها، لأن وعاءها هو الزمن، والزمن لا يمكن إعادته، لأنه يسير دوما إلى الأمام دونما تراجع أو تقهقر، فما مضى منه لا يعود ولا يعوض، ولا يستطيع الإنسان أن يستعيد من الماضي لحظة واحدة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة -عند وقت الاحتضار- في قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمه هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)} [المؤمنون]، أي أن مطلب الإنسان في رجوعه إلى الزمن أو رجوع الزمن إليه أمر مستحيل، ولذا عبر المولى عز وجل عن رفضه بأوجز عبارة في قوله {إنها كلمة هو قائلها} أي كلمة لا وزن لها ولا يمكن تحقيقها، وقد أشار الحسن البصري -رحمه الله- إلى هذه الحقيقة في عبارة بليغة فقال: [ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم: أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة.] (1).
_____
(1) المنظور الزماني في القرآن ص 35 د. حلمي صابر ط دار الكتب الحديثة ط 1 سنة 1991 م.


وعلى ذلك: فلا يمكن في هذه الدنيا إعادة الزمان ولا رجوعه القهقري، وإذا ما حدث ذلك كان علامة على انتهاء الدنيا، وذلك حينما تشرق الشمس من المغرب؛ ومن هنا: كانت مهمة المنهج التاريخي في محاولة استعادة ما كان من أحداث في الزمن الماضي بطريقة عقلية تأملية، ومن خلال تصور ذهني محصن لمجريات الأحداث، إنه باختصار: نوع من المعايشة لأحداث الماضي في ضوء ما خلفته الأحداث الماضية من آثار ووثائق ونصوص، والقيام بتوثيقها وصحة نسبتها إلى عصرها وإلى أصحابها من خلال طرق النقد والتمحيص، وفق خطوات المنهج التاريخي الحديث، والركيزة الأساسية في المنهج التاريخي أو إن شئت قلت: العمود الفقري له هي ((الوثائق)) سواء أكانت آثارا مادية مصنوعة كالمعابد وغيرها، أم نقوشا خطية، أم روايات ومخطوطات وكتب ورسائل، وكان التحري عن هذه الوثائق لكل أنواع هو الخطوة الأولى في عمل الناقد التاريخي.
وقد يمتد المنهج التاريخي ليشمل الكثير من فروع العلم والمعرفة مثل تاريخ الأديان واللغات، وسائر العلوم التي تتخذ من التاريخ مدخلا ضروريا لها لمعرفة مجرياتها وتطوراتها عبر التاريخ.

Post a Comment

Previous Post Next Post