التواضع
هذا الخلق
الكريم ينبئ عن معدن صاحبه ويظهر عليه في
التعامل مع غيره خاصة إذا كان هذا أقل
علما أو عمرا أو منزلة اجتماعية . وبما أن الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى
وجدها وهو أولى من غيره أن يحصل عليها ولا يعيقه عن ذلك أي من العوائق النفسية أو
الموانع الاجتماعية . ومما ييسر هذا أن يتخلص الإنسان من شرور نفسه من عجب وتكبر
وغرور ومدح للنفس أو غير ذلك من الصفات القلبية الممقوتة . قال تعالى : { فلا
تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [ النجم : 32 ]
ومن ابتلي بشيء
من هذه الشرور فقد حرم خيرا كثيرا ، ومن لم يتواضع فسيحقر غيره ويترفع عن
الاستفادة منه وتحصيل ما لديه من علوم وخبرات وتجارب .
روى عياض بن
حمار – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أوحى إلي
أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد . [ مسلم : 4/2199 ] .
ومن المقرر شرعا
أنه لا فضل لأحد على أحد حتى وإن كان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
بالتقوى .
ومن التواضع في
التربية الذاتية ألا يخجل الإنسان من الاستفادة ممن هو أصغر منه عمرا أو أقل منزلة
، فلا يستنكف الأستاذ أن يتعلم من تلميذه ولا الوالد أن يقتدي بابنه فقد يكون ممن
أوتي علما وخبرة وتجربة لم يؤتها الآخر .
ولا يكاد
المتأمل في آيات القرآن يجد مثلا للتواضع أبلغ في الاستشهاد من موقف موسى مع الخضر
عليهما السلام ، فهذا نبي من أنبياء الله ينزل إلى مقام التلميذ متحليا بالتواضع
مع أستاذه العبد الصالح .
وهذا إبراهيم
عليه السلام ينصح أباه عله يرتدع عن غيه وضلاله ولكن الأب الضال يستكبر ويرفض
إتباع ابنه حيث روى القرآن تحاورهما فقال إبراهيم عليه السلام : { يا أبت أني قد
جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا } [ مريم : 43 ]
ويكون جواب الأب المعاند : { قال أراغب أنت عن آلهتي يا
إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا } [ مريم : 46 ]
ولو أن الرجل تواضع وانصاع لدعوة الحق لحاز الفلاح في
الدارين ، وكذا من أراد تربية ذاته وتزكيتها فليتواضع لمن هو أعلم منه كما يتواضع
له من هو أجهل منه
قال عمر بن الخطاب : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة
والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون (1)
ورحم الله الإمام الشافعي حين يقول : لا يطلب أحد هذا العلم
بالملك وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح(2)
فإذا لم تكن للمرء بداية محرقة لم تحصل له نهاية مشرقة ، أي
إذا لم يصبر على أخلاق من يتعلم منه ولم يصبر على ذل التعلم ، وإذا لم يتواضع
للمعرفة التي يحملها المعلم أيا كانت منزلته فلن يصل إلى التزكية المبتغاة ، فليكن
المتعلم لمتعلمه كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية
لقبوله (1)
اصبر على مر الجفا من معلم فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة تذوق مر الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
وبالتحلي بخلقي الصبر والتواضع تستجلب محبة الآخرين فتفتح
مغاليق قلوبهم وأفئدتهم ، وتنطلق ألسنتهم للإفادة والتعليم ، كما تنساب منهم
المعارف والعلوم والخبرات فتزكو الروح وتسمو الذات
Post a Comment