التنقيب عن أثار مآثر فلسطين
منذ أن ولد علم الأثار كحقل معرفي مستقل في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا, لم تحظ منطقة في العالم بنصيب من التنقيب الأثري مثلما حظيت منطقة فلسطين. فخلال قرن ونصف تم نبش كل تل تقريبا فيما بين ساحل المتوسط غربا وغور الأردن وساحل البحر الأحمر شرقا , وفيما بين الجليل شمالا وأطراف سيناء جنوبا . أما دوافع هذا النشاط المحموم, فقد أوضحها لنا منذ البداية بيان تأسيس صندوق التنقيب في فلسطين- Palestine Exploration fund , الذي تأسس في بريطانيا عام 1865 كأول هيئة من نوعها في أوربا . فقد ورد في بيان الهيئة أن الهدف الرئيسي لنشاطاتها هو : " التحري الدقيق والمنهجي لآثار و طبوغرافية و جيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة , من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس " . وبذلك ولد علم الآثار في فلسطين كعلم آثار توراتي , ووضع في خدمة اللاهوت , وصار البحث عن أصول إسرائيل في الأرض المقدسة وإثبات تاريخية المرويات التوراتية هدفا وحيدا لنشاط الحملات التنقيبية , وذلك منذ حملة الكابتن وارن R.E. Warren وهي أول حملة نظمها صندوق التنقيب في فلسطين عقب تأسيسه مباشرة. وقد بقي علم الأثار في فلسطين أسيراً لمصادر تمويله التي يغلب عليها التوجه اللاهوتي, حتى بعد أن انتقلت رعاية الحملات التنقيبية إلى كبريات الجامعات في أوربا والولايات المتحدة , وكان عليه تبرير وجوده واستمراره كحقل معرفي من خلال إرضائه لتلك المصادر
ولكن من عجائب المفارقات أن كل هذا النشاط المحموم الذي قاده منقبون يحملون التوراة بيد ومعول التنقيب باليد الأخرى , قد أدى أخيرا إلى عكس الغاية المنشودة منه, وبدأت حلقات الرواية التوراتية , واحدة إثر أخرى , تخرج من مجال التاريخ إلى مجال الأدب الديني , ولم يبق من أحداث الأسفار التاريخية في التوراة ما يتقاطع مع علم التاريخ وعلم الأثار, سوى بضعة أخبار من الهزيع الأخير لحياة مملكتي السامرة ويهوذا. وحتى هنا, فان هذه الأخبار القليلة بقيت غامضة ومشوشة ومحملة بالعناصر اللاهوتية التي تجردها من عناصر الخبر التاريخي الموثٌق .

Post a Comment

أحدث أقدم