المسح الأركيولوجي الميداني في فلسطين
أن أهم ما توصل إليه المسح الأركيولوجي الميداني خلال العشرين سنة الماضية,هو أن الجماعات التي توطنت في مناطق الهضاب الفلسطينية منذ مطلع عصر الحديد الأول1200-1000ق.م (وهي الفترة المفترضة لدخول القبائل العبرانية أرض كنعان و استيطانها في تلك المناطق خلال ما يدعى بعصر القضاة) لم تخرج من مصر في موجة هجرة واسعة,ولم تدخل فلسطين بعد فترة تجوال في الصحراء,ولم تأت معها بديانة نزل وحيها في سيناء,ولم تفتك بالسكان المحليين أو تحل محلهم.كما أن ثقافة أولئك المستوطنين الأوائل للهضاب الفلسطينية تعكس انتماءهم لثقافة عصر البرونز الأخير (1950-1550ق.م) وللثقافة السائدة في بقية المناطق الفلسطينية ,على ما تبينه لنا مخلفاتها المادية,رغم احتفاظهم بهامش من الخصوصية فيما يتعلق بأنماط حياتهم الاقتصادية .ولعل من نافلة القول الآن الحديث عن انتماء أولئك المستوطنين لسلف واحد, أو عن تحدرهم من أولاد يعقوب الاثني عشر.
إن ما كان يجري في منطقة الهضاب الفلسطينية خلال عصر الحديد الأول ,هو أن جماعات متفرقة من السكان الفلسطينيين , الذين اقتلعوا من أراضيهم خلال فترة الجفاف الطويلة التي سادت منطقة شرقي المتوسط منذ أواسط عصر البرونز الأخير, كانت تعود الى حياة الزراعة و الاستقرار بعد فترة طويلة من حياة الرعي المتنقل ,سواء في المناطق الهضبية أم في غيرها من مناطق فلسطين الكبرى التي طالتها الكارثة المناخية .لقد أسس هؤلاء السكان الفلسطينيون مجموعة من القرى الصغيرة المتباعدة ,وعملوا على تعرية الأحراش الدائمة الخضرة من أجل تجهيز حقولهم الزراعية, وعاشوا لفترة طويلة على زراعات الكفاف .وبمرور الوقت فان تقارب هذه القرى , وتزايد الصلات العائلية بينها , وشعورها بالحاجة إلى التعاون , قد ولد عندها نوعا من الإحساس بالهوية الاثنية .وبعد مرور ثلاثة قرون شكل سكان المناطق الهضبية القاعدة السكانية لمملكة السامرة ثم لمملكة يهوذا .
إن الفجوة بين أصول إسرائيل علم الآثار وأصول إسرائيل كتاب التوراة ,وهي من السعة.بحيث تضعنا أمام مجتمعين متباينين كليا رغم اشتراكهما في مكان جغرافي واحد.فإسرائيل التوراتية هي ابتكار أدبي خيالي ,لا يعطيه صفة الواقعية كونه يجري على مسرح جغرافي واقعي,مثلما لا يعطي صفة الواقعية لقصص ألف ليلة و ليلة كونها تجري في بغداد أو الكوفة أو البصرة أو القاهرة وبالمقابل ,فان سكان المناطق الهضبية في عصر الحديد الأول , كما صرنا نعرفهم جيدا من خلال علم الآثار, لن يستطيعوا التعرف على أنفسهم في الصورة التي رسمتها لهم الأسفار الخمسة و يشوع والقضاة . وهم بالتأكيد لم يعوا أنفسهم كإسرائيليين بالمعنى التوراتي , ولم يعبدوا إله التوراة .ذلك أن المخلفات المادية لمواقع عصر الحديد الأول في المناطق الهضبية , تشهد بأن أهلها كانوا على الديانة الكنعانية التقليدية , وأن معابدهم المتواضعة كانت مكرسة للآلهة الفلسطينية القديمة, وما من دليل مباشر أو غير مباشر على وجود بذور للمعتقد التوراتي .من هذه المعابد ما اكتشفه آدم زرتال A.Zertal في جبل عيبال, وما اكتشفه أ.مازارA.mazar في منطقة منسي التوراتية في الهضاب الشمالية,وما اكتشفه فنكلشتاين Finkelstien .في منطقة شيلوة .
ثم ماذا عن التاريخ الذي يسجله لنا سفرا صموئيل وسفر الملوك الأول ؟ وهل يعرض لنا النص التوراتي هنا أحداثا أكثر واقعية؟ هل تنادت العشائر التي سكنت المناطق الهضبية مدة قرنين خلال عصر القضاة (الذي يتطابق مع عصر الحديد الأول ) الى التوحد لأول مرة تحت لواء ملك؟ هل تشكلت فيما بين أواخر القرن الحادي عشر و أوخر القرن العاشر قبل الميلاد مملكة موحدة في الهضاب الفلسطينية, حكمها إلى التوالي شاؤل وداود وسليمان , وضمت اليها معظم المناطق الفلسطينية وجزءاً كبيرا من مناطق سورية الجنوبية ,اثر حملات داود العسكرية الصاعقة؟
حتى أواخر سبعينيات القرن العشرين , كان معظم البحاثة يعتقد بأن عصر المملكة الموحدة الذي (ابتدأ بحكم شاؤل عام 1025 ق.م, وانتهى عقب موت سليمان عام 931, هو أول فترة في الرواية التوراتية يمكن الركون إلى مصداقيتها التاريخية.ولكن نتائج المسح الأثري الميداني قد أخرجت أحداث المملكة الموحدة من مجال التاريخ إلى مجال الأدب الديني الخيالي , شأنها في ذلك شأن الحلقات السابقة من الرواية التوراتية .فنحن نعرف الآن أنه حتى نهاية القرن الحادي عشر,وهي الفترة المفترضة لابتداء المملكة الموحدة , لم تكن منطقة الهضاب الشمالية (مرتفعات السامرة ) تحتوي إلا على 200 قرية زراعية صغيرة لم يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف .أما مدينة شكيم Shechem ( نابلس ) وهي المدينة الوحيدة في الهضاب الشمالية قبل بناء السامرة , فقد كانت في أواخر القرن الحادي عشر مدينة مدمرة ومهجورة . ولم تكن بقية البلدات الصغيرة مثل بيت ايلBethel وجبعة Geba وشيلوة Sheloh وترصةTirzah أفضل حالا بكثير, فقد كانت مواقع هزيلة إلى أبعد الحدود , ولا يبلغ عدد السكان في كل منها أكثر من بضع مئات .
وفيما يتعلق بالمنطقة الجنوبية(مرتفعات يهوذا)فان الوضع يبدو أكثر تخييبا للأمال .فحتى نهاية القرن العاشر, وهي الفترة المفترضة لنهاية المملكة الموحدة , لم تكن المنطقة تحتوي الا عدد ضئيل من السكان لا يتجاوز الألفي نسمة ,موزعة على بضع عشرات من التجمعات القروية الصغيرة ,وكانت مدينة حبرون Hebron (الخليل) شبه خالية من السكان. أما أورشليم العاصمة المفترضة للمملكة الموحدة ,فلم تكن حية ومسكونة خلال كامل القرن العاشر .إن ما يقوله لنا علم الأثار بكل بساطة, هو إن المملكة الموحدة لم تقم لها قائمة لأنه لم يكن هنالك ما يكفي من السكان ,ولم يكن هنالك عاصمة ولا مراكز حضارية ذات شأن , وإن منطقة الهضاب الفلسطينية لم تكن قادرة على تطوير هيكلية دولة حقيقية إلا في سياق القرن التاسع,عندما ظهرت الدولة في الشمال أولاً عقب بناء مدينة السامرة عام 880 ق.م
عقب موت الملك سليمان يقول لنا نص سفر الملوك الأول بأن مملكته انقسمت بين ابنه رحبعام الذي حكم من أورشليم على مملكة يهوذا , ويربعام بن نابط , الوالي السابق على مناطق الشمال , الذي استقل بحكم القبائل العشرة الشمالية المدعوة إسرائيل .وبذلك يرسم لنا المحرر التوراتي صورة دولتين توأمين مكتملتي النمو ,استقلت كل واحدة منهما بقسم من الأراضي السابقة للمملكة الموحدة .ولكن التنقيبات الأثرية والمسح الميداني في مناطق الهضاب الفلسطينية, قدمت لنا معلومات عن أصول كل من إسرائيل ويهوذا تتعارض كليا مع الرواية التوراتية.فنحن نعرف الآن أن الدولة في الشمال قد نشأت قبل قرن ونصف على الأقل من نشوء الدولة في الجنوب .ففي أواخر القرن العاشر ومطلع القرن التاسع , كان عدد السكان في المناطق الهضبية الشمالية قد بلغ حوالي45000نسمة , وتحولت مدينة شكيم إلى مركز إقليمي مهم , كما انتعشت البلدات الصغيرة مثل بيت ايل وشيلوة وترصة.وعندما بنيت مدينة السامرة حوالي عام880 ق .م , كانت منطقة الهضاب الشمالية قد وضعت تحت إدارة مركزية شاملة . على ما تدلنا عليه الشواهد الأثرية ,ومنها نشوء الصناعات المركزية الضخمة التي تعمل بإشراف وتوجيه سلطة الدولة مثل صناعة الزيت و الفخار. ولم تمض عقود قليلة حتى تم توحيد الإقليم بكامله في دولة قوية جعلت من نفسها أهم دولة في فلسطين , وواحدة من الدول الهامة في جنوب سورية.
دعيت هذه الدولة في النصوص الآشورية ببلاد عُمري أو أرض عُمري نسبة إلى باني مدينة السامرة ومؤسس الدولة الملك عُمري (*). أما الاسم إسرائيل فغير موثق لدينا حتى الآن إلا في نصين محليين ,الأول هو نقش ميشع ملك مؤاب الذي عثر عليه في منطقة شرقي الأردن , والثاني هو نقش للملك حزائيل ملك دمشق , عثر عليه في تل دان في فلسطين الشمالية.إن خلاصة ما يمكن قوله بخصوص مملكة إسرائيل – السامرة, هو أنها نشأت كمملكة فلسطينية كنعانية في سياق عصر الحديد الثاني ,وأن سكانها هم فلسطينيون محليون لا علاقة لهم بأسباط بني إسرائيل العشرة.أما الأراضي التي شغلتها هذه المملكة, فهي مناطق الهضاب الشمالية من بيت ايل جنوبا إلى السفوح المتحدرة نحو وادي يزرعيل شمالا .ولكنها توسعت على شكل مد استعماري نحو الشمال والشرق ,وكان توسعها يزداد أو يتقلص تبعا لقوة ملوكها وعلاقاتهم مع الممالك المجاورة ,وخصوصا مملكة آرام دمشق التي تنازعت معها النفوذ على وادي يزرعيل الممر الاستراتيجي المهم ,وعلى مناطق شرقي الأردن التي يمر فيها واحد من أهم الطرق التجارية في المنطقة .جمعت الأحلاف العسكرية ,التي كانت تعقدها دمشق للوقوف في وجه الضغط العسكري الآشوري ,بين الدولتين ,كما فرقتهما المصالح المتناقضة , فكانت بينهما أوقات حرب وأوقات سلم ,إإلى أن أنهت أشور استقلال دمشق عام 732ق .م , بعد حروب طاحنة بين الطرفين دامت أكثر من قرن من الزمان ,ثم دمرت السامرة عام 721ق .م وألحقتها بالتاج الآشوري ,ففقدت السامرة وجودها ككيان سياسي إلى الأبد ,وذلك بعد حوالي قرن ونصف من نشوئها.
في الوقت الذي تحولت فيه السامرة إلى دولة قوية مطلع القرن التاسع,كانت منطقة الهضاب الجنوبية على حالة التخلف والعزلة التي كانت عليها خلال القرن العاشر وما سبقه ,ولم تكن تحتوي الا على عشرين قرية زراعية تقريبا ,إضافة إلى جماعات رعوية تعيش على الرعي المتنقل .وتدل الفخاريات التي صنعها هؤلاء, وبقية مخلفاتهم المادية, على صلة قوية بثقافة عصر البرونز الأخير, الأمر الذي يدل على وفودهم من مناطق فلسطينية أخرى لا من خارج المنطقة .أما المركزين الحضريين الرئيسيين وهما أورشليم و حبرون ,فلا يوجد ما يدل على أنهما قد تحولا إلى مركزين إقليميين مهمين خلال القرن التاسع.
ورغم أن وتيرة الاستيطان أخذت بالتسارع خلال القرن الثامن ,وأدت إلى زيادة ملحوظة في عدد السكان, إلا أن الدلائل معدومة تقريبا على قيام سلطة مركزية في المنطقة.فصناعات الزيت والفخار بقيت في نطاقها العائلي البسيط ولم تتحول إلى صناعات مركزية ضخمة إلا في مطلع القرن السابع, وكذلك الأمر فيما يتعلق باستخدام الكتابة على نطاق واسع ,وغيرها من الشواهد الدالة على النشاطات البيروقراطية, مثل النقوش الكتابية التذكارية, والنقوش الكتابية على الجرار الفخارية, والأوزان الحجرية المرقمة, وما إليها.أما البنى المعمارية الضخمة, فرغم أن ظهورها قد تأخر أيضا إلى مطلع القرن السابع , أي بعد قرنين من ظهورها في السامرة , إلا إنها لم تضاه مثيلاتها في الشمال ,لا من حيث السعة ولا من حيث الجمال وروعة الهندسة المعمارية .وبكلمة واحدة فان علم الآثار يقول لنا بأن منطقة يهوذا لم تتحول إلى دولة إلا خلال الفترة الانتقالية من القرن الثامن إلى القرن السابع.
إرسال تعليق