تاريخ أورشليم و أركيولوجيتها
شهدت أورشليم حياة اقتصادية نشطة بتأثير المناخ المؤاتي الذي سادت منطقة شرقي المتوسط خلال عصر البرونز الوسيط ,والذي تميز بمعدلات مطرية عالية, وساعد على تحول عدد كبير من المواقع الفلسطينية الى بلدات مسورة, يسيطر كل منها على مساحة محدودة من الأرض حوله.ففي مطلع الألف الثاني قبل الميلاد تراجعت موجة الجفاف الطويلة التي ميزت الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر الى عصر البرونز الوسيط ,وعاد المناخ الرطب والمطير الذي شجع السكان الذين اقتلعوا من أراضيهم الزراعية على العودة الى حياة الاستقرار, فظهرت القرى في كل السهول الخصبة , وانتعشت المراكز الحضرية القديمة ,وظهرت أيضا مراكز حضرية جديدة .ولكن أًيا من هذه المراكز لم يبلغ من الاتساع والقوة ما يؤهله للسيطرة على إقليم واسع وأدارته بشكل مركزي , ناهيك عن مملكة كبيرة تجمع المنطقة الفلسطينية في وحدة سياسية متكاملة.فقد بقي النظام السياسي هنا نظاما قبليا يقوم على المشيخات المحلية ,والأسر الحاكمة المتنفذة التي لم تتوصل بعد الى تأسيس سلالات ملكية مستقرة السلطة.
ولكن موجة جديدة وطويلة من الجفاف بدأت آثارها بالتوضح تدريجيا منذ مطالع عصر البرونز الأخير ,وكانت السبب على ما يبدو في القضاء على الحضارة المزدهرة لعصر البرونز .وهذا ما نلاحظه بشكل خاص في المنطقة الفلسطينية التي أخذ سكانها بالتناقص,وتراجعت فيها مظاهر الثقافة في كل مجال, على ما تبديه المخلفات المادية من فخاريات وفنون تشكيلية وعمارة وتحصينات .وقد انهارت الزراعة أولا في المناطق الهضبية الحساسة للجفاف, وأخذ المزارعون ينزحون عن أراضيهم منذ مطلع القرن الرابع عشر ,كما تم هجران المراكز الإقليمية الرئيسية وبينها أورشليم.
فلقد أظهرت نتائج المسح الأركيولوجي الشامل الذي أجراه عالم الآثار الإسرائيلي آفي أوفير لمرتفعات يهوذا , أن الاستيطان البشري قد توقف في المناطق المحيطة بأورشليم منذ مطالع عصر البرونز الأخير ,ولم يعد اليها الا في الفترة الانتقالية بين القرن العاشر و القرن التاسع قبل الميلاد. كما خرج البروفيسور. فرانكن H.Franken من جامعة ليدن بهولندة وزميلته مرغريت شتانير M.steiner ( اللذان عهد إليهما معهد الآثار البريطاني في القدس بإعادة تأريخ اللقى الأثرية من موقع أورشليم) بنتائج مفادها أن أورشليم كانت مهجورة وخالية من السكان خلال القسم الثاني من عصر البرونز الأخير .فلا أثر لتحصينات أو بوابات أو أية لقى أثرية تدل على وجود حياة في الموقع . وبما أن مثل هذه اللقى قد وجدت بكثرة في الطبقة الأثرية العائدة الى عصر البرونزالوسيط.فإن الادعاء بأن لقى عصر البرونز الأخير قد انجرفت لسبب ما ,لا يقوم على أساس علمي .
لا يبدو أن هذا الوضع قد تغير بالنسبة لأورشليم خلال عصر الحديد الأول ,وخلال مطلع عصر الحديد الثاني في القرن العاشر قبل الميلاد .ورغم أن التنقيبات الإسرائيلية برئاسة ايجال شيلوه Yigol Shiloh قد تركزت بشكل خاص على ما يدعى بمدينة داود(وهي نفس مدينة عصر البرونز الوسيط التي تدعى بالمدينة اليبوسية نسبة الى الكنعانيين اليبوسيين من سكانها) بحثا آثار القرن العاشر والمملكة الموحدة , وذلك خلال سبعينات وثمانينات القرن العشرين , إلا أن النتائج قد جاءت مخيبة للآمال , إذ لم يتم العثور على شواهد تدل على أن الحياة قد عادت إلى المدينة خلال الفترة المفترضة لحكم داود و سليمان .وكما يقول الأثاري دافيد أوسيشكين Daved Ossishkin من جامعة تل أبيب , فإن غياب الدلائل لا يقتصر على البنى المعمارية الضخمة , بل يتعدى ذلك إلى الكسرات الفخارية الصغيرةوما إليها من اللقى الصغير الدالة على وجود حياة سكنية نشطة . وبما أن موقع مدينة داود قد أمدنا بعدد كبير من أمثال هذه اللقى من مستويات عصر البرونز الوسيط ومن القرن الثامن والسابع, فإن النتيجة التي يتوصل إليها أوسيشكين هي إن أكثر التخمينات تفاؤلا بخصوص أورشليم القرن العاشر تقول بأنها لم تكن أكثر من قرية صغيرة عادية من قرى المناطق الهضبية المتخلفة.
مع مطلع القرن التاسع هنالك دلائل على حدوث نشاط إنساني على هضبة عوفيل, ولكن البيوت لم يكن لها وجود , وما من بينات تدل على أن عددا كبيرا من السكان قد أقام هنا . لذا فإن المرجح هو إن الموقع كان عبارة عن مقر اداري لسلطة سياسية متواضعة , وأننا الآن أمام بدايات ولادة مدينة لم يكن لها وجود خلال بضعة قرون ماضية .
في سياق القرن التاسع ( الذي شهد نشوء مملكة السامرة وممالك شرقي الأردن و ازدهار مدن وادي شفلح والسهل الفليستي , وبروز دور دمشق الإقليمي ) تحولت أورشليم إلى مدينة مسكونة ,وذلك في الوقت الذي ازدادت فيه حركةالاستيطان في مرتفعات يهوذا , حيث جرى تنظيف الأراضي من الأحراش البرية وتحويلها إلى مدرجات صالحة للزراعة , وأخذت منتجاتها تدفع إلى الأسواق المحلية في أورشليم و حبرون, اللتين تحولتا إلى مركزين إقليميين في المرتفعات, إضافة إلى لخيش أهم مدن سهل شفلح . ثم إن هذه المدن الثلاث قد دخلت في تنافس من أجل السيطرة على الأراضي الزراعية في الهضاب الجنوبية, والتي لم تكن قراها قد خضعت بعد إلى سلطة مركزية . ولم تحسم هذه المنافسة إلا بعد أن قامت أورشليم بإلغاء استقلال حبرون , ثم تجاوزتها وبسطت سلطتها على كامل مرتفعات يهوذا وصولا إلى بئر السبع , وذلك حوالي عام 750ق.م .أما بالنسبة لمدينة لخيش فقد كان على أورشليم أن تنتظر دمارها على يد الآشوريين عام 701ق.م, لتستولي على تجارتها كاملة وتطلق يدها في مناطق سهل شفلح .
كان لتدمير السامرة وإلغاء استقلال المملكة الشمالية وإلحاقها بالتاج الآشوري عام721ق.م آثارإيجابية على المملكة الجنوبية الناشئة. فقد استقبلت المنطقة أعدادا كبيرة من السكان الزراعيين النازحين عن الشمال, عقب الحملات الآشورية على السامرة فيما بين 734 و 721ق.م , وهذا ما زود منطقة الجنوب باليد الزراعية العاملة الماهرة. و يظهر المسح الأثري الميداني أن عدد القرى الزراعية فيما بين أورشليم وبئر السبع قد بلغ خلال النصف الثاني من القرن الثامن قرابة 300 قرية , وتحول العديد من القرى القديمة إلى بلدات حسنة التنظيم . ويقدر بعض الباحثين أن عدد سكان يهوذا في أواخر القرن الثامن قد بلغ حوالي 120.000 نسمة , وهذا يعني أن المنطقة قد شهدت ما يشبه الانفجار السكاني السريع بعد فترة فراغ ديموغرافي طويلة المدى .
Post a Comment