ضوابط  ترجيح المصالح و المفاسد .
التغليب بين المصالح المتعارضة و المفاسد المتعارضة ، و بين المصالح المتعارضة مع المفاسد قد يكون الأمر فيه واضحا ميسورا لكل واحد ، و يقع بنوع من التلقائية و البداهة ، باعتبار أن ذلك " مركوز في طبائع العباد "[1]  كما قال ابن عبد السلام : واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ، ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد ،  نظرا لهم من رب الأرباب، كما ذكرنا في هذا الكتاب، فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خير بين فلس ودرهم لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار لاختار الدينار، لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح[2]
كما يقول أيضا رحمه الله : إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد
وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة [3].
الفعل إن تضمن مصلحة مجردة ، حصلناها ، وإن تضمن مفسدة مجردة ، نفيناها ، وإن تضمن مصلحة من وجه ومفسدة من وجه ، فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ، ودفع المفسدة ، توقفنا على المرجح ، أو خيرنا بينهما كما قيل في من لم يجد من السترة إلا ما يكفي أحد فرجيه فقط . هل يستر الدبر ؛ لأنه مكشوفا أفحش ، أو القبل ؛ لاستقباله به القبلة ؟ أو يتخير لتعارض المصلحتين والمفسدتين ؟ ، وإن لم يستو ذلك ، بل ترجح أحد الأمرين تحصيل المصلحة أو دفع المفسدة ، فعلناه ؛ لأن العمل بالراجح متعين شرعا[4].
و لا يخفى أن معايير الترجيح لا تكاد تحصى ، و كل معيار يمكن أن تتفرع عنه و تندرج تحته أو تلتحق به ، أو تستدرك عليه ، معايير أخرى تخصص أو تقيد[5] .
المعيار الصحيح الوحيد لإدراك المصالح و درء المفاسد في الإسلام هو القرآن الكريم و ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم و إذا كان من أفضل نعم الله تعالى على عباده العقل الراجح و البصيرة النافذة لهذا فهو يدرك المصالح و يدرك حسن الشريعة و قبح ما خالفها و به تعرف الأمور على ما هي عليه و يميز الحق من الباطل فإن قدر المكلف على اتباع النصوص لا يعدل عنها و إلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه و النظائر[6] . 
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام[7] " .
" فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا وإذا غلبت الجهة الأخرى فهى المفسدة المفهومة عرفا ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة فإن رجحت المصلحة فمطلوب ويقال فيه إنه مصلحة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه ويقال إنه مفسدة على ما جرت به العادات فى مثله فإن خرج عن مقتضى العادات فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة .
 هذا وجه النظر فى المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية من حيث مواقع الوجود فى الأعمال العادية .
 وأما النظر الثانى فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا فالمصلحة إذا كانت هى الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة فى حكم الإعتياد فهى المقصودة شرعا ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية فى الدنيا فإن تبعها مفسدة أو مشقة فليست بمقصودة فى شرعية ذلك الفعل وطلبه
 وكذلك المفسدة إذا كانت هى الغالبة بالنظر إلى المصلحة فى حكم الإعتياد فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي فى مثلها حسبما يشهد له كل عقل سليم فإن تبعتها مصلحة أو لذة فليست هى المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل بل المقصود ما غلب فى المحل وما سوى ذلك ملغي فى مقتضى النهي كما كانت جهة المفسدة ملغاة فى جهة الأمر ."[8]


[1] نظرية القريب و التغليب و تطبيقاتها في العلوم الإسلامية ، ص: 353 .
[2] قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1/ 9 .
[3] قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1/ 136 .
[4] شرح مختصر الروضة  ج3/ 214 .
[5] نظرية التقريب و التغليب و تطبيقاتها في العلوم الإسلامية ، ص: 354.
[6] القواعد الفقهية الكبرى و ما تفرق عنها ، ص:517 .
[7] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، ج28/ 129
[8] الموافقات في أصول الشريعة ، ج2/ 20 ، 21 .

Post a Comment

أحدث أقدم