قضية العدالة الاجتماعية من القضايا المهمة والتي ترتب عليها تحولات تاريخية مهمة، بل حجزت أهم محور في الثورات والانتفاضات والحروب في التاريخ الإنساني، وفي القرون الأخيرة تشكلت الأنظمة الاقتصادية وفق رؤى خاصة حول مجمل محاور النشاط الاقتصادي، وكان من أهم هذه المحاور والتي كنت تعطي الصبغة الأساسية للنظام الاقتصادي هو نظرته لآلية توزيع الثروات، وما ترتب عليها من تفاوت في الدخل، ومدى قدرة هذا النظام على إشباع الحاجات، وتحقيق العدالة الاجتماعية  بين أفراد المجتمع.
ومن هنا تتضح لنا إشكالية توصيف وتكييف قضية العدالة الاجتماعية، هل هي قضية اجتماعية أو اقتصادية!
وهل من لوازم النمو الاقتصادي أن يجافي العدالة، وأن تكون من لوازمه اللامساواة والتفاوت في الثروة والدخل الناتج من اختلاف القدرات والجهد المبذول؟
وهنا يتوجه سؤال أدق وهو هل يمكن أن يصاحب نمو اقتصادي مرتفع قدر كبير من العدالة بشكل متناسب طرديًا ومتكامل مع تنمية اقتصادية متقدمة؟
وفي هذا البحث محاولة لتوجيه قضية العدالة الاجتماعية ضمن مفردات وقضايا الاقتصاد الإسلامي، وبيان الصورة الفعلية من خلال المساق العام لعمل هذه الأدوات، وباستخدام المنهج الوصفي والذي يتم فيه استقراء النصوص في هذه القضية من مختلف المصادر القديمة والحديثة والنظرية والتطبيقية، ثم استنباط الحكم على جزئيات ومتعلقات العدالة الاجتماعية مستخدمًا أسلوب المقارنة مع بقية الأنظمة الاقتصادية الرئيسة.
أولا: تعريف العدالة الاجتماعية (Social Justice):
العدالة الاجتماعية لها أكثر من معنى باختلاف المذاهب الاقتصادية نفسها، وعلى حسب كل معنى تتوجه سياسات الدولة وأدواتها لتحقيق هذا المعنى.
وبشكل عام تعرَّف: بأنها تكافؤ الفرص بين أفراد الشعب وفئاته، أي توفير المناخ الذي يسمح بأن يكون لدى كل مواطن وكل فئة الفرص نفسها المتاحة للآخرين، وبذلك يشعر كل مواطن بأنه يحصل على نصيبه العادل من السلع والخدمات، وكذلك حقه في الوظيفة العامة وفي تقرير المجتمع الذي يعيش فيه.
أو هو نشاط تقوم بها الدولة، وتهدف بها إلى تصحيح الآثار السلبية لتَركُّز الدخل في أيدي بعض الفئات الاجتماعية بسبب التوزيع الأولي، وصولا إلى النمو الاقتصادي المنسجم، وقد تستهدف به الشأن الاجتماعي، وذلك عبر تخفيف التفاوت بين الطبقات، وإعطاء فُرصٍ متكافئةٍ للسكان. كما يمكن أن تستهدف الشأن الاقتصادي، وذلك عبر توجيه الادخار نحو الاستثمار الإنتاجي أو عبر إتاحة الفُرص أمام زيادة الاستهلاك الجماعي الذي يؤدي إلى زيادة الإنتاج الداخلي ([1]) .
ويستخدم الاقتصاديون ألفاظًا مقاربة لمصطلح العدالة الاجتماعية للدلالة عليها، مثل: إعادة توزيع الثروة والدخل، وقد يتحدثون عنه من خلال الحديث عن مؤسساته كالضمان والتأمينات والرعاية الاجتماعية.
وتعارف علماء المسلمين عليها تحت مسمى التكافل الاجتماعي وهو: "أن يتضامن أبناء المجتمع ويتساندوا فيما بينهم سواء أكانوا أفراداً أو جماعات، حُكَّاماً أو محكومين على اتخاذ مواقف إيجابية كرعاية الأيتام، ونشر العلم... وغير ذلك، بدافع من شعور وجداني عميق ينبع من أصل العقيدة الإسلامية، ليعيش الفرد في كفالة الجماعة، وتعيش الجماعة بمؤازرة الفرد، حيث يتعاون الجميع ويتضامنون لإيجاد المجتمع الأفضل، ودَفْع الضرر عن أفراده([2])".
ويتميز التكافل الاجتماعي في الإسلام عن بقية الأنظمة التكافلية الوضعية بالنظرة الشمولية التي لا تقتصر على النواحي المادية في المجتمع؛ بل تشمل سائر المناحي الأدبية والروحية من حب وتعاطف وتعاون وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر([3])، ويشمل ضمان الدولة لمستوى معيشي لائق لكل أفرادها (الضمان الاجتماعي)، وكفالة المجتمع (أفرادًا ومؤسسات) للمحتاجين منه، ولذا نلاحظ في الكتابات المعاصرة استخدام كلٍ من المصطلحين (التكافل، الضمان) في معنى ضمان المجتمع والدولة مستوى معيشي لائق للأفراد، وعادةً يتم استعمال مصطلح حد الكفاية لتحديد مقدار هذا المستوى المعيشي.
وإن كان الضمان الاجتماعي موجودًا في الأنظمة الاقتصادية الوضعية، فإنَّ التكافل في الاقتصاد الإسلامي يتميز بعدد من الميزات منها ([4]):
1.  بسبقه الزمني، وشموله الزماني والمكاني ولكل أصناف المحتاجين ، فهو يشمل الأجيال المختلفة، كما يشمل الأقطار المختلفة.
2.  بدرجة الإلزام به، فالزكاة كأداة رئيسة من أدوات التكافل، هي قبل ذلك فريضةٌ وركنٌ من أركان الإسلام.
3.  تعدي المسئولية عنه من مستوى الفرد والأسرة إلى المجتمع باختلاف دوائره والدولة.


ثانياً: تعريف الاقتصاد الإسلامي.
ورد لفظ الاقتصاد في القرآن الكريم والسنة بمعنى الاستقامة والتوسط والاعتدال وعدم مجاوزة الحد، وعَرَّفَه العز بن عبد السلام ([1]) بأنه " رتبة بين رتبتين، ومنزلة بين منزلتين".
وقد جاء في الكتاب والسنة أحكامٌ متعلقةٌ بالاقتصاد الإسلامي بشكلٍ عام، وأحيانًا إيراد بعض الأحكام التفصيلية. فكل ما يتعلق بالاقتصاد الإسلامي ينبع من الشريعة الإسلامية؛ لذلك يمكن القول بأنَّ الفكر الاقتصادي في الإسلام قديمٌ قِدم الإسلام نفسه، فنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة غنيةً بالأحكام والتوجيهات اللازمة لتنظيم النشاط الاقتصادي ليناسب كل الظروف الزمانية والمكانية ([2]).
والاقتصاد في الإسلام لا ينفصل ولا يتجزأ عن كلية وشمول الإسلام لضروب الحياة المختلفة، وجوانبها العديدة بشريعته وعقيدته على السواء([3]).
وأما ما يتعلق بالاقتصاد بمعنى الاعتدال والتوسط في التعامل مع الثروة المادية فقد جاء في أكثر من آية، ومنها قوله تعالى: )وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً( [الإسراء/ 26]. وقال تعالى: )وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً([الإسراء/29]،
و جاء في السنة أحاديث تدل على أهمية الاعتدال والتوسط في التعامل مع الثروة المادية ومن ذلك قول النبي e: [كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا في غَيْرِ إِسْرَافٍ ولا مَخِيلَةٍ]، وقال ابن عَبَّاس رضي الله عنهما : كُلْ ما شِئْتَ وَالْبَسْ واشرب ما شِئْتَ ما أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أو مَخِيلَةٌ([4]). وفي هذا الحديث دعوة إلى الاقتصاد في التعامل مع الثروة المادية الخاصة، وأما الثروة العامة فقد جاء [أنَّ النبي e مَرَّ بِسَعْدِ (ابن أبي وقاص) وهو يَتَوَضَّأُ فقال: ما هذا السَّرَفُ يا سَعْدُ. قال: أفي الْوُضُوءِ سَرَفٌ. قال: نعم وان كُنْتَ على نَهَرٍ جَارٍ ([5])]، وفي هذا الحديث دعوة إلى الاعتدال والتوسط في التعامل مع الثروات، ولو كانت ثروة مشاعة (عامة) كمياه الأنهار.
واختار في تعريف الاقتصاد الإسلامي ما عُرَّفَته به الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية بأنه: "علمُ وسائلِ استخدام الإنسان لسد حاجات الفرد والمجتمع الدنيوية طبقًا لمنهجٍ شرعيٍ محدد([6])".


[1] - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين العز بن عبد السلام السلمي، دار القلم – دمشق، ط 1، 1421هـ- 2000م، تحقيق: نزيه كمال حماد وعثمان جمعة ضميرية، ج2/ص340.
-[2] مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام، سعيد مرطان، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1406هـ-1986م، ص47.
-[3] أصول الاقتصاد الإسلامي. عبد الحميد محمود البعلي. دار الراوي – الدمام. ط 1. 1421هـ 2000م ، ص 21.
[4]- صحيح البخاري ، (ج5 /ص2181). والنسائي (5/79، رقم 2559). وصححه الحاكم (4/150، رقم 7188).
[5]- مسند أحمد، (ج2/ص221، رقم7065). وابن ماجة (ج1/ص147، رقم425). وضعفه الألباني في الإرواء (ج1/ص171، رقم140). وقال صاحب مرقاة المفاتيح: سنده حسن. انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن سلطان القاري، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1422هـ - 2001م، تحقيق: جمال عيتاني، ج2/ص122.
[6]- الموسوعة العلمية والعملية في البنوك الإسلامية، الأصول الشرعية والأعمال المصرفية في الإسلام، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية والمعهد الدولي للبنوك والاقتصاد الإسلامي- القاهرة، 1982م، ج5، الجزء الشرعي، المجلد الأول، ص82.



[1]- انظر: معجم مصلحات الإدارة العامة. إبراهيم بدر شهاب. دار البشير ومؤسسة الرسالة- بيروت. ط 1. 1418هـ-1998م، ص 222. ومعجم المصطلحات الاقتصادية الإسلامية، علي بن محمد الجمعة، مكتبة العبيكان، ط 1، 1421هـ-2001م، ص60. ودور السياسة المالية في إعادة توزيع الدخل القومي في الجمهورية اليمنية للفترة 1990-2003م، حارث حسين المفتي، رسالة ماجستير ، جامعة عدن، 1426هـ-2005م، ص30.
1 - التكافل الاجتماعي في الإسلام، عبد الله علوان، دار السلام- القاهرة، 2001م، ص 15.
[3] - التكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية، محمد الصالح، دار العبيكان – الرياض، ط 2، 1413هـ-1993م، ص17-18.
[4] - دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة- القاهرة، ط 1، 1415هـ-1995م، ص401.

Post a Comment

Previous Post Next Post