البرجوازية الطفيلية


شهدت العقود الأخيرة كثرة الحديث عن " الطفيلية " وعن "البرجوازية الطفيلية " و " الانشطة الطفيلية "، حتى لقد أصبحت هذه التعبيرات والمصطلحات أكثر التعبيرات شيوعا وإنتشاراً في القاموس السياسي [1].

هل أن مفهوم "البرجوازية الطفيلية "  يرتقي الى المفهوم العلمي الذي يمكن تبنيه في فهم وتحليل الاوضاع الإقتصادية والإجتماعية الراهنة أم هو مفهوم دعائي، لا ينفذ الى جوهر الظواهر العينية ولا يصلح أن يكون أداة تحليلية سليمية لتشخيص الواقع الاجتماعو/الاقتصادي الراهن.
إن الارتكان الى هذا المفهوم السهل الشائع قد يدفعنا الى قبول توصيف سطحي للظواهر السائدة، دون القيام بعمليات " التمحيص العلمي " والتأمل النظري الواجب للمفاهيم المجردة وعلاقاتها بالظواهر والوقائع العينية المجسدة. وتطرح هذه الملاحظة عدة اسئلة من قبيل: هل اصبحت هذه الفئة جزءا مكونا من بنية طبقية محددة أم أنها مجرد أنشطة وممارسات سياسية واقتصادية وايديولوجية ؟ هل هي شريك في السلطة وما هي حدود هذه الشراكة، وهل يمكن لها أن تهيمن على السلطة ؟ والسؤال الصعب – هل هناك نمط انتاج طفيلي كي نقول أن هذه الفئة لها سند قوي في قوى إنتاجية، ومن ثم تصبح مهيمنة ؟.

في مسعى الاجابة عن هذه الاسئلة، وغيرها، شهدت العقود الثلاثة الاخيرة جدلاً خصباً وثريا لتدقيق هذا المفهوم والتأكد من شرعيته، أو عدمها. وبدون الدخول في التفاصيل يمكن القول أن هناك إتجاهين رئيسيين في المناقشة هما [2] :

الإتجاه الأول، وهو الاتجاه الرافض لإستخدام مفهوم البرجوازية الطفيلية، ويعتقد أنه غير شرعي من الناحية العلمية. فهناك من الباحثين [3] من يعتقد بأن هذا التعبير (الطفيلية) هو تعبير هلامي، ولهذا فإن الباحثين الذين أنتجوا واستخدموا مفهوم (الطفيلية) كانوا مضطرين الى إضافة جملة من الاستدراكات والتحفظات على تحديداتهم. ولهذا يتساءل هؤلاء عن معنى " الطفيلية "، وهل تشمل نشاطا دون آخر، أو بتعبير أدق هل تعني النشاط الذي لا يساهم في عمليات الإنتاج المادي ؟ وإضافة لذلك هل " الطفيلية " وصف لفئة دون أخرى ؟. ولهذا نراهم يعترضون على تعبير (الطفيلية) لأن المطلوب، بحسب هؤلاء، هو توصيف سمات التطور الرأسمالي في " العالم الثالث " في ظرف مثل هذا وليس صفات الطبقة نفسها. إذا سلمنا بأن البرجوازية تنطلق من تحقيق أقصى ربح ممكن من خلال نشاطها، وإذا كان الإطار العام للنشاط الاقتصادي في بلد ما يجعل من المقاولة، على سبيل المثال، النشاط الأكثر ربحية، اليس هذا النشاط عقلانيا من وجهة نظر البرجوازية ؟ وبالتالي ينطرح تساؤل أخر : من هو الطفيلي ؟ أهو إطار النشاط العام الذي يشترط كل المجتمع عمليا في ظل التبعية ؟ أم هو طبقة معينة ضمن الطبقات الأخرى ؟ [4].
الإتجاه الثاني، وهو الاتجاه الذي يعتقد بمشروعية استخدام هذا المفهوم، كأداة تحليلية، لتوصيف التطور الملموس لفئة اجتماعية محددة وبروزها في البنية الاجتماعية في بلدان عديدة، وتوسع نشاطها ومسعاها للسيطرة على توجيه الاقتصاد والسياسة في هذه البلدان. وينطلق هذا الإتجاه من حقيقة أن ملاحظة الواقع وكذلك من الدراسات التي أجريت في بلدان عدة تبين أن هناك نمواً سريعاً ومتعاظماً لفئة اجتماعية، تقدر ثرواتها بأرقام " فلكية " ومن دون أن يكون لهذه الثروات وجود مادي ملموس في أصول إنتاجية. ومن بين العوامل التي ساعدت على هذا النمو السريع لهذه الفئات يشار الى إرتباطها بالفساد في قمة السلطة وإختراقها لأجهزة الدولة و " القطاع الحكومي " وتمكنها بالفساد والإفساد أن تسخّر موارد الاقتصاد العينية والمالية لخدمتها وتحقيق ثرائها، إضافة الى الإستفادة من الإختلالات في الاقتصاد وانتشار المضاربات والتهرب من الضرائب الجمركية والضرائب على الدخول. وقد تمكنت هذه الفئات بحكم نفوذها السياسي المتزايد من ناحية، ويفضل ثرائها الاسطوري المتزايد، وسيطرتها على بعض أوجه النشاط الاقتصادي من ناحية أخرى أن تهيمن على المفاصل الاساسية للإقتصاد والمجتمع في العديد من البلدان.

وبهدف تعميق المعرفة بالظاهرة الطفيلية في الاقتصاد يلح أنصار هذا الاتجاه على ضرورة التفرقة بين مفاهيم عديدة، الأول ما يمكن تسميته بـ " الأنشطة الطفيلية " والثاني ما يمكن تسميته بـ " الدخول الطفيلية " والثالث ما يمكن تسميته بـ " عناصر وفئات الرأسمالية الطفيلية ".

ويجري تعريف " النشاط الطفيلي " على أنه " نشاط ناقل للثروة ومجاله الاساسي التبادل.... فهو نشاط غير منتج للثروة أو القيمة، وممارسته تتم في المقام الاول خارج الانتاج " [5]. إن مصطلح " الأنشطة الطفيلية " يعد مفهوما أعم وأوسع، ويغطي عددا من الأنشطة الاقتصاديات والممارسات الاجتماعية التي ينخرط فيها أقسام واسعة من الناس على اختلاف مواقعهم الاجتماعية.

أما " الدخول الطفيلية " فتعرف على أنها تلك الدخول التي تتولد " .... من اعمال وساطة في معاملات يكون طرفها القطاع العام من جانب والقطاع الخاص من جانب آخر، فقد يكون طرفها الأخر مؤسسة أجنبية في الخارج تتعامل مع القطاع عن طريق هذه الوساطة ..... وقد تنشأ هذه الدخول عن اعمال (مقاولات الباطن) التي يعهد بها القطاع العام الى القطاع الخاص " [6].

وحين يجري الحديث عن " الرأسمالية الطفيلية " فيجب تركيز الانتباه وبذل جهود أكبر لجهة تمحيص واختيار هذا المفهوم وماذا يقصد به تحديدا. ويجري التساؤل حول هل برزت فئة رأسمالية جديدة ومتميزة عن كافة الفئات والشرائح الرأسمالية التقليدية المتعارف عليها بالتصنيفات الطبقية (رأسمالية زراعية، رأسمالية تجارية، رأسمالية صناعية .... الخ) أم أن مصطلح " الرأسمالية الطفيلية " هو تسمية جديدة لفئات رأسمالية قديمة نعرفها جيدا ونتعايش معها منذ فترة غير وجيزة.

وإذا تم توصيف " الرأسمالية الطفيلية " على أنها فئة لها خصائصها التكوينية والتشريحية المتميزة، يبرز على الفور سؤال اخر : هل هذه الفئة (الرأسمالية الطفيلية)هي الفئة المسيطرة (أو المهيمنة) على الاقتصاد والمجتمع أم لا ؟، إذ كما تشير التجربة فقد توجد وتتبلور في المجتمع فئات " رأسمالية طفيلية " يمكن رؤيتها بالعين المجردة، دون حاجة لمجهر، ولكن قد تظل فئات هامشية (غير مركزية) في تبيان مجمل التشكيل الاجتماعي القائم. عندها ينطرح تساؤل أخر : أين توجد " الرأسمالية الطفيلية " بالدقة ؟ هل هي تقع خارج " العملية الانتاجية " ؟ وما هي حدود هذه العملية ؟

في مسعى الاجابة عن هذه الأسئلة يمكن القول إن المجال الرئيس لنشاط " الرأسمالية الطفيلية " يكمن في مجال التداول وليس في مجال الانتاج وخلق القيم. إن الأنشطة والدخول الطفيلية لا ترتبط بالعملية الانتاجية، وإنما ترتبط بعمليات الوساطة والتوزيع والتداول. ويعني ذلك أن الارباح التي تجنيها " البرجوازية الطفيلية " ناتجة عن نشاط لا يضيف شيئاً الى الانتاج، ويجب أن لا نخلط بين هذه وبين التجارة. التجارة هي القيام بوظيفة محددة، ولكن هناك أنشطة طفيلية بمعنى أنها لا تضيف شيئا الى عملية الانتاج والتوزيع ولا تقوم بأي وظيفة اقتصادية [7]. وهذا يستحث بدوره ضرورة تعريف " العمل المنتج " و " العمل غير المنتج " من وجهة نظر تطور المجتمع والجماعة في لحظة تاريخية من تطورها، وقد قمت بتناول هذه الاشكالية بشكل تفصيلي في عمل أخر [8] وبالتالي لن ندخل في تفاصيل ذلك.

يتخذ رأس المال العامل في المجالات التي تنشط فيها الرأسمالية الطفيلية سمات محددة، ويقوم على استغلال النفوذ والفساد، وإستخدام قوى " غير اقتصادية " في التعامل وتحقيق الدخول والارباح الطائلة، ويهيمن عليه طابع المضاربة الواسعة. ويلاحظ أن هناك درجة عالية من السيولة في حركة رأس المال التجاري والمضارباتي، إذ ينتقل أصحاب رؤوس الاموال الطفيلية من نشاط الى اخر بسرعة شديدة سعيا، وراء أعلى ربح ممكن وأعلى معدل سرعة لدورة رأس المال، وهنا ظهر مصطلح " الارانب " في مصر للتدليل على هذا الثراء السريع لاعضاء هذه المجموعات والذي تنامي بمتوالية هندسية !. وثمة ظاهرة متميزة يجب ابرازها وهي " السيولة البالغة " التي تنتقل بها بعض العناصر من مراتب " البروليتاريا الرثة " الى مراتب الرأسمالية الطفيلية. ويلاحظ كذلك أن الدخول والثروات الطفيلية لا تتولد عادة من خلال الاساليب " المألوفة " في المجتمعات المتقدمة، بل هي تقوم على عمليات للنهب والاغتصاب المنظم الذي تقوم به عناصر ومجموعات منظمة هي أشبه ما تكون بعناصر المافيا التقليدية.

وهكذا يمكن الاستنتاج بأن الفئات الرأسمالية الطفيلية يمكن أن تكون حلقة وصل بين أقسام مهمة من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الانتاجية وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع وقيم السلب والنهب في الداخل. ومن جهة أخرى يتعين التأكيد على أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى القطاع الاقتصادي للدولة، ويعني ذلك أن الطفيلية مرتبطة بالشرائح المختلفة للبرجوازية. كما يمكن الحديث عن نمو " الطفيلية " من خلال القطاع العسكري، وخاصة في البلدان التي تتمتع بموارد اقتصادية كبيرة وتجنح نحو بناء قدرات عسكرية " غير عادية " !. ولهذا يجري التأكيد على أن ثمة برجوازية طفيلية، وهذا لا يشمل كل البرجوازية. كما أنه ليس حكما اخلاقيا، بل إنه نابع من التأمل العميق في طبيعة الفئات، التي بدأت خلال السنوات الاخيرة تحتل " مواقع ريادية " في هرمية التشكيل الاجتماعي، ولكن خاصيتها الأساسية ليس المساهمة في تحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب وبالتالي تقدم المجتمع، بل إنها، ببساطة، تعيش عالة عليه وتمتص ثرواته وتستنزف قواه الانتاجية.










Post a Comment

Previous Post Next Post