الحرية والحتمية:
     لقد نشأ مفهوم الحتمية كنقيض لمفاهيم ومبادئ اعتقد أنها هي التي تحكم العالم، كالصدفة والعشوائية والفوضى وغياب النظام والاعتقاد في خضوع العالم إلى قوى غيبية لا سبيل إلى معرفتها أو التحكم فيها على الأقل( هو ما عبر عنه بالجبرية). ويقصد بالحتمية الاعتقاد بأن الظواهر تخضع في نشوئها وتطورها وزوالها، لعوامل مادية مضبوطة يمكن معرفتها والتحكم
موقف موريس ميرلو-بونتي الذي يقترب من موقف ابن رشد، إذ يوجه نقدا قويا للفلسفة الوجودية عامة ولسارتر خاصة، و يبدو هذا النقد واضح في قول ميرلوبونتي: " يقال إن حريتنا إما أن تكون حرية كاملة، وإما أنها لا تكون على الإطلاق" ينفي ميرلوبونتي فكرة الحرية المطلقة التي قال بها سارتر، كما يرفض فكرة ان يكون الانسان خاضعا للحتميات التي دافعت عنها العلوم الإنسانية (استحضر الحتميات النفسية اللاشعورية لدى فرويد، السلوكية لدى المدرسة السلوكية، و الحتميات الاجتماعية، الطبيعة...) بذريعة التفكير الموضوعي: فبالنسبة للفلسفة الوجودية ، فقد أخطأت عندما قالت بالحرية المطلقة، فصحيح أن للإنسان وجود لذاته من حيث هو ذات واعية ومريدة، إلا أن ذلك لا يعني أن أفعاله متعالية عن إكراهات المجتمع الذي يعيش فيه، بل على العكس من ذلك، فهو وجود مندمج في وسطه، واندماجه هذا يدفعه أحيانا إلى إجراء بعض التعديلات والتغييرات على سلوكاته وأفعاله تسهيلا لعملية اندماجه هذا داخل وسطه. أما بالنسبة للعلوم الإنسانية، فهي أيضا قد أخطأت عندما قالت بالحتمية المطلقة، فصحيح أن الإنسان خاضع لإشراطات خارجية لكن خضوعه لها لا يماثل خضوع الأشياء، بل إن الإنسان يمتلك وجودا خاصا، إنه وجود لذاته، وجود يتعالى به عن وجود الأشياء  من حيث هو مجرد  وجود في ذاته. هكذا، سيؤكد ميرلوبونتي على فكرة الحرية النسبية  من حيث أنها حرية نابعة من عقدة  من العلاقات ذات بعدين أساسيين: بعد داخلي وبعد خارجي، وبتعبير ميرلوبونتي: " فأنا بنية سيكولوجية وتاريخية" فالبعد السيكولوجي  يمنحني الحرية والبعد التاريخي يقيدها .
نظرية موريس ميرلوبونتي في الحرية، فسنجد أن صاحب" فينومينولوجيا الإدراك"، يشترك مع غيره من فلاسفة الوجودية في القول بان الحرية هي صميم الوجود الإنساني، إلا انه يختلف عنهم  في القول بان مجرد حضور الذات أمام نفسها ينطوي هو نفسه على الحرية، إذ أن الوعي ليس سوى تلك المقدرة على الإفلات من كل قيد أو حد، بمجرد التفكير في هذا القيد أو هذا الحد. فالذات تمتلك القدرة على أن تعلو بالفكر على كل قيود خارجية قد تتصور نفسها أسيرة لها. وتبعا لذلك فإن الوعي أو الشعور- فيما يقول – هو بطبيعته انفصال ومفارقة وحرية، لأنه ينطوي في صميمه على حركة مستمرة تنفصل فيها الذات عن الواقع، بفعل تلك الحرية، التي هي في جوهرها، قدرة مباشرة على التحرر من شتى الحدود والقيود. إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه في هذا الإطار، هو أن ميرلوبونتي يرفض الحرية المطلقة، بل يعتبر أن الحرية التي تظل حرة بالضرورة، لا تفترق مطلقا عن الحتمية نفسها، مبررا قوله بأننا لو سلمنا بوجود مثل هذه الحرية فسيكون من العسير علينا أن نفهم معنى الالتزام engagement  [ما نحققه في الحاضر لابد من أن يندرج في المستقبل محققا في الوقت نفسه شيئا يظل محفوظا، فإذا ما جاءت اللحظة التالية أفادت مما سبقها من لحظات].

Post a Comment

Previous Post Next Post