مقوِّمات بقاء الحضارة الإسلامية
      الحضارات والأمم كالبشر تمر بحالات من الضعف والقوة، بل إن بعض الحضارات تموت، وتبقى أثراً بعد عين، وخبراً يروى في بطون الكتب، ]فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[([i])، والتداول من سنن الله الكونية، قال الله تعالى: ]وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[([ii]) ، ولكلٍ من نشأة الحضارة وانهيارها، واندثارها سننها، وأسبابها.
      والأمة الإسلامية ليست بدعاً من الأمم في خضوعها لهذه الدورات الحضارية من ضعف ومن ثم نهوض واسترجاع للقوة، ومما امتازت به هذه الأمة أنها لا تموت، وهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأن الله I جعل فيها بذرة الديمومة، والبقاء، والإصلاح الذاتي.
وأما عوامل بقاء هذه الأمة فهي:
1- تكفل الله تعالى بحفظ كتاب هذه الأمة، وهذا دليل على بقائها، قال تعالى: ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[([iii]).
2- من طبيعة هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة، بشهادة الصادق المصدوق المؤيد بخبر السماء، حيث قال e: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)([iv])، لبقاء مصدر التشريع الكتاب والسنة، قال ابن عباس t: تضمن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية: ]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى[([v]) ([vi]).
3- ستظل طائفة من هذه الأمة على الحق، يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، حتى يأتي أمر الله لا تأخذهم في الله لومة لائم، (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك) ([vii]).
4- عوامل التجديد باقية في هذه الأمة، برجال يرسلهم الله على رأس كل قرن، قال e: (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد أمر دينها)([viii]).
5- حفظ هذه الأمة من الهلاك: الله I لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً يمحو به دولة الإسلام، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم([ix])، قال تعالى:]ولَن يَجْعلَ اللهُ لِلكَافِرِينَ عَلى المُؤمِنِينَ سَبِيْلاً[([x]).
      والتاريخ يشهد أن هذه الأمة أصابتها نكسات، ونكبات كبرى منذ نشأتها حتى ظن الظانون بها ظن السوء، وابتلي المؤمنون، وزلزلوا زلزلاً شديداً، ولكن الأمة استطاعت أن تتغلب على عوامل الضعف من الداخل، وعوامل الغزو من الخارج، وأن تحول الهزائم المرة إلى انتصارات، وتصير إلى قوة بعد ضعف، وتتوحد الأمة بعد أن كانت شتاتاً، وأشلاء ممزقة مبعثرة.
عوامل نشأة الحضارة
      الحضارة تطلق على المعارف العلمية، والنظم الاجتماعية، ومظاهر الحياة المادية التي يعيشها المجتمع، وعلى هذا نقول إن الحضارة ثمرة الجهد الإنساني باستثمار ما يحيط به لخير الإنسانية، فالإنسان إذاً هو أساس هذا البناء الحضاري،" فهو صانعها، ومبدعها، فهي المميزة له عن غبره من سائر الأحياء"([xi])، ثم يأتي التفاعل مع البيئة كعامل مهم في نشأة الحضارة، وللنظم التي تحكم علاقة الإنسان دور رئيس في عطاء الإنسان، ومن ثم في بناء الحضارة، وصُنَّاع الحضارة يعلمون ما للزمن من أهمية كبيرة في بنائها، ثم يأتي دور الأمن والأمان في عطاء الإنسان، وإبداعه، والحضارة تبنى بالعلم لا بالجهل، وهذه العوامل مجتمعة لها دور أساسي في تكوين الحضارة، والإيمان الحق هو الذي يحقق هذه العوامل مجتمعة، ولذلك تتكون الحضارة الإنسانية السوية في ظل الإيمان، وفي كنفه، فهو الرحم التي تتخلق فيها كل النواتج الحضارية بإبداعاتها المعنوية، والمادية، والإبداعات المادية ما هي إلا أفكار تبلورت وتجسدت في شكل مادي، يقول ولو ديورانت: "إنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه ما أمن الإنسان من خوف إلا وتحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة، وازدهارها"([xii])، ونستخلص مما سبق أن عملية النهوض الحضاري لا بد لها من عوامل نجملها فيما يلي:
أولاً    : الإنسان الصالح الذي يحمل أعباء النهضة.
ثانياً   : التشريع الذي ينظم حياة الإنسان.
ثالثًا   : استثمار الوقت، واستغلاله.
رابعاً  : الأمن والأمان، لأن ذلك يفتح أمام الإنسان مجالات الإبداع.
خامساً :أهمية البيئة في بناء الحضارة، إذ هي المادة الخام لها.
سادسًا : العلم، فالحضارة تبنى على العلم لا على الجهل.
      باعث النهوض الحضاري: عملية النهضة الحضارية لا بد لها من باعث قوي يحمل أفراد الأمة على النهوض، ودارسو الحضارات تكلموا عن هذا الباعث، فيرى ابن خلدون أن العصبية القائمة على القربى وصلة الدم هي العامل، أو الدافع إلى نشأة الحضارة، فيقول: "ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية...، فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة"([xiii])، ويحدد عُمْر الدولة في الغالب بأعمار ثلاثة أجيال، ثم تنهار الدولة، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين، وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة([xiv])، بينما يرى شبنجلر([xv]) أن التاريخ يتكون من كائنات حية هي الحضارات، وكل حضارة كالكائن العضوي يولد، ثم ينمو، وأخيراً يموت، وتتولد الحضارة في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية([xvi])، يرى توينبي([xvii]) أن الحضارة تنشأ عن الأديان، وأن وراء كل حضارة من حضارات اليوم ديانة عالمية، فالعقائد الدينية هي التي تسير مجرى التاريخ، ولا يعتبر الإمبراطوريات مقياساً للحضارة، بل تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة، إذ تلجأ الأقلية المسيطرة إلى التوسع حين تفقد مقومات الإبداع، ويرى أن شخصيات التاريخ لن تكون قابلة للفهم إلا إذا نظر إليها باعتبارها أدوات للنشاط الروحاني، أما نقطة التحول في النهضة الحضارية كما يراها توينبي ففي عنصر التحدي والاستجابة، فقد يكون هذا التحدي ناتجاً عن الضربات الداخلية أو الخارجية، فقد يحدث أن تنهزم أمة ما فتمثل هذه الهزيمة صدمة قاسية، فإذا استطاعت هذه الأمة أن تستجيب لهذا التحدي بنجاح فإن المجتمع يستثير طاقاته الإبداعية الكامنة، وتنهض مدافعة عن نفسها بقوة مضاعفة([xviii]).
      نستخلص مما سبق أن نهضة الحضارة تبدأ بباعث قوي يحمل أفراد الأمة على النهوض، وأن أعظم باعث على النهوض الإيمان، لأنه الروح الوثابة، وهو معين لا ينضب من القوة، لأنه يتصل بالله تعالى، وهذا ما يحمل المؤمن على الشهود الحضاري، قال تعالى:]وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[([xix])، وهو حياة([xx]) ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[([xxi])، فالإيمان يفجر الطاقات والمعارف في نفس المؤمن، بل يحفِّزه إلى العلا بما يزرع في نفسه من العزة والإباء، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته فقال:" إن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين، إما من نبوة، أو دعوة حق"([xxii])، ومن جهة أخرى فإن المؤمن يعلم أن الله I خلقه لغاية سامية، وجعله خليفة في هذه الأرض، ]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[([xxiii])، ومن المهمات الرئيسة التي أنيطت به عمارتها، ]هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[([xxiv])، وأي تقصير في هذا الجانب سيسأل عنه، والآيات تؤكد على استمرارية الجزاء على الفعل، وتواصله في الأرض والسمـاء، قال تعالى: ] وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً[([xxv]).
      "ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلاً لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباءً لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح، مكدسة لا تؤدي دوراً ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء ... نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم، فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قروناً طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي"([xxvi])، "فالإيمان هو الذي يعطي الحضارة الإسلامية هويتها، هو الذي يربط بين أجزائها، وهو الذي يطبع كل ما يدخل إليها من عناصر فيزنها بميزان الحق I، فتخرج من عبورها خلال العقيدة الإسلامية متجانسة مع كل ما حولها"([xxvii]).
      ودور العقيدة في تكوين الحضارات، وبناء الأنفس، والمجتمعات قضية مسلمة في كل المذاهب الفكرية والتاريخية، وهو الذي يخرج القوى الكامنة في النفس البشرية إلى واقع عملي([xxviii])، وهذا ما حمل علم الاجتماع أن يقول في تعريف الإنسان بأنه حيوان ديني([xxix])، ومعلومات القوانين الطبيعية فقط، لا يمكن أن تكون أساساً لحضارة إنسانية سامية، لأنّ هذه المشاهدات والمعلومات لا تجعل الإنسان إلا في منـزلة حيوان عاقل، ولا تعين إلا على أن تتخذ للحياة تلك النظرية التي هي نظرية الماديّين، وهي أنّ حياة الإنسان تنحصر كلها في هذه الدنيا، وغايته النهائية أن يحقق رغباته الحيوانية بأكثر ما يكون من الجودة والكمال، وأن الوجه الحقيقي لاستعمال القوة هو أن ينسجم الإنسان مع ما يجري في هذا الكون من قانون التنازع للبقاء، والانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح، والحضارة الغربية اتخذت هذه النظرية في الحياة، وكانت عاقبة أمرها أن جميع القوى التي تسلحت بها غدت تستعمل لهلاك الإنسانية لا لسعادتها، وعاد الغربيون يشعرون بأنهم في حاجة إلى حضارة إنسانية أسمى مما هم فيه من الحضارة الحيوانية([xxx]).


([i]) سورة النمل: الآية 52.
([ii]) سورة آل عمران: الآية 140.
([iii]) سورة الحجر: الآية 9.
([iv]) رواه ابن ماجة في سننه: كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، ح(3950)، ج2، ص1303. في الزوائد في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء، وهو ضعيف وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي.
([v]) سورة طه: الآية 123.
([vi]) رواه الطبري، محمد بن جرير، تفسير الطبري، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1، 1412هـ/1992م، رقم (24400)، ج8، ص479.
([vii]) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الأمارة، باب قوله e: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)، ح (1920)، ج3، ص1523.
([viii]) رواه الحاكم في المستدرك: كتاب الفتن، ج4، ص522. وسكت عنه الذهبي في التلخبص. وقال الألباني صحيح (صحيح الجامع).
([ix]) القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، القاهرة: دار الكتب المصرية، 1373هـ/1954م، ج5، ص420. بتصرف.
([x]) سورة النساء: الآية 141.
([xi]) شحادة ناطور وآخرون، مدخل إلى تاريخ الحضارة، ص12.
([xii]) ول ديورانت، قصة الحضارة، تقديم محيي الدين صابر، ترجمة زكي نجيب محمود، بيروت: دار الجيل، 1988م، ج1، ص3.
([xiii]) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص94.
([xiv]) المرجع السابق، ص121-122 بتصرف.
([xv]) شينجلر (1880-1936م) فيلسوف ألماني له كتاب في انهيار الحضارة، درس في جامعتي برلين وميوخ، وتخصص في العلوم الطبيعية، ونال درجة الدكتوراه عن هيراقليطس عام 1904م. راجع شحادة الناطور وآخرون، مدخل إلى تاريخ الحضارة، ص41.
([xvi]) راجع شحادة الناطور وآخرون، مدخل إلى تاريخ الحضارة، ص41. والبطاينة، محمد ضيف الله، الحضارة الإسلامية، ط1، عمان: دار الفرقان، (1423هـ/2002م)، ص19-20.
([xvii]) أرنولد توينبي مؤرخ وفيلسوف إنكليزي معاصر، توفي سنة 1957م. شحادة الناطور وآخرون، مدخل إلى تاريخ الحضارة، ص46. بتصرف.
([xviii]) راجع الشرقاوي، في فلسفة الحضارة الإسلامية، ص208- 209. والخطيب، سليمان، أسس مفهوم الحضارة في الإسلام، ط1، الزهراء للإعلام العربي، 1406هـ/1986م، ص34-35، 77-78، بتصرف.
([xix]) سورة الشورى: الآية 52.
([xx]) قال الطبري في تفسير قوله تعالى: ]لما يحييكم[: قال بعضهم معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان (تفسير الطبري): ج6، ص211.
([xxi]) سورة الأنفال: الآية 24.
([xxii]) مقدمة ابن خلدون، ص112.
([xxiii]) سورة البقرة: الآية 30.
([xxiv]) سورة هود: الآية 61.
([xxv]) سورة الجن: الآية 16.
([xxvi]) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي، وعبد الصبور شاهين، ط4، بيروت، دار الفكر المعاصر، ودار الفكر، 1407هـ/1987م، ص56-57.
([xxvii]) سليمان الخطيب، أسس مفهوم الحضارة في الإسلام، ص120.
([xxviii]) هيشو، سنن القرآن في قيام الحضارات، ص125.بتصرف.
([xxix]) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص69. بتصرف.
([xxx]) المودودي، أبو الأعلى، نحن والحضارة الغربية، جدة: الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1404هـ/1984م، ص95، بتصرف.

Post a Comment

Previous Post Next Post