ركائز التمكين ومقوماته

أصبح مفهوم التمكين واضحا من خلال الفصول السابقة فهو ينص على توزيع السلطة وحرية التصرف والتحكم أعلى إلى أسفل المنظمة، ومنح المرؤوسين الحق في المشاركة الفاعلة وتحمل المسؤولية. ويتعارض مع هذا المفهوم أن تبقى السلطة المركزية هي المتحكمة في كل صغيرة وكبيرة في المنظمة، وهنا يبقى القرار مركزاً ومنوطاً فقط بالرجل الأول في المنظمة بحيث تغيب المأسسة وتكون القرارات عرضة لمزاجية المدير وأهوائه ورغباته.
والأسوأ من تكريس المركزية في أي منظمة، هو في أن يمنح المدير للمرؤوسين الحق في اتخاذ القرار و الحرية في التصرف، دون توفير متطلبات ذلك الحق وتلك الحرية في التصرف والمشاركة في تحمل المسؤولية والمساءلة.
وتؤكد الكثير من الأدبيات على أهمية خلق وتوطيد بعض المقومات الأساسية وتوطيدها قبل تمكين العاملين في المنظمة. من هنا فإن هذا الفصل قد خصص للحديث حول تلك المقومات الأساسية والتي تشتمل على أربعة مقومات وركائز أساسية إضافة إلى بعض المقومات الأخرى. وأهم هذه المقومات (Bowen and Lawler, 1992; 1995):
¥     العلم والمعرفة والمهارة.
¥     الاتصال وتدفق المعلومات.
¥     الثقة بين القائد والمرؤوسين.
¥     والحوافز المادية والمعنوية.

أولا: المعرفة والمهارة

لا يخفى على إنسان القرن الواحد والعشرين الكم الهائل من المعرفة التراكمية التي تكونت ما بعد الحرب الكونية الثانية حتى يومنا هذا. كما لا يخفى على أي مدير ما يشاهده ويلمسه المرء من تطورات تكنولوجية ومعرفية وعلمية تستدعي تغيرات في: الأنماط الإدارية التقليدية، وتغيير في إدارة الموارد البشرية، وتغيير في شكل العلاقات بين مختلف أقطاب اللعبة الاقتصادية في المؤسسة، من مديرين ومساهمين وعاملين وزبائن ومجتمع بأكمله. ومن أهم المفاهيم المعاصرة في وقتنا الحاضر ما يسمى: بإدارة المعرف،ة وعامل المعرفة، (Knowledge worker) وغيرها من المصطلحات التي تدل على تحول واضح نحو استخدام المعرفة وإدارتها في المنظمات.
مصطلح موظف أو (عامل) المعرفة (Knowledge Worker)  غير شائع مصلحاً في أدبيات الإدارة العربية، وقد لا يلاقي استحساناً بسبب عدم استعماله وعدم تعود القارئ العربي على هذا المصطلح، وعدم استخدام وتداول أي مصطلح، قد يفقده بطبيعة الحال معناه لدى القارئ. ولفهم العامل أو الموظف صاحب المعرفة لا بد من طرح بعض التصنيفات المتعلقة بهذا المصطلح، كما يوضح الجدول الآتي[i]:
جدول 2التصنيفات المتعلقة بموظف المعرفة

إبداع الأفكار
إبداع أفكار هامة    
إبداع أفكار غير هامة   
استخدام الأفكار
       استخدام أفكار هامة   استخدام أفكار  غير هامة
       أفكار هامة    أفكار غير هامة
فهناك الموظف المستخدم للمعرفة Knowledge User  والموظف المبدع للمعرفة Knowledge Creator. فالموظف المبدع للمعرفة هو ذاك الذي يخلق أفكار وأساليب إبداعية جديدة ويعمل على توظيفها في المؤسسة. وهذا الصنف يشمل العلماء والباحثين في مجالات البحث والتطوير، ويشمل المهندسين في تطوير السلع الجديدة وإنتاجها، والمصممين والأكاديميين والمبدعين، في مجال الإعلان والدعاية والكتابة الصحفية.

والتصنيف الأكثر شيوعاً هو في استخدام المعرفة بعد ابتكارها مثل استخدام البرامج المتاحة بعد إبداعها ومثل المدققين الماليين الذين يستخدمون المعرفة المتوافرة والمتاحة.
وقد صنف  Davenport (2001)المعرفة على أساس من يقدمون أفكاراً هامة وأفكاراً غير هامة:
أما الأفكار الهامة: فهي تلك الأفكار التي تساهم في تغيير الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات. مثال ذلك، أفكار في خلق إستراتيجيات جديدة تساهم في تغيير مسار المؤسسة، أو إبداع برامج إدارية جديدة، أو تقديم أفكار في تغيير التكنولوجيان المستخدمة في المؤسسة، وهكذا.
أما الأفكار البسيطة وغير الهامة: فهي تتضمن تعديلات طفيفة وغير جوهرية في طريقة العمل. مثلا كأن يتم إحداث تعديلات في تصميم المكاتب لتصبح أقل تكلفة وأكثر كفاءة لاستخدام الموظفين. وهي أيضا شبيهة بالتحسين المستمر على النوعية.
أما الأفكار العظيمة والهامة: فهي مثل فكرة نظام المخزون اللحظي (Just in Time Inventory) و كذلك أنظمة الحاسوب المساعد في الإنتاج والحاسوب المساعد في التصميم CAM، Computer Aided Manufacturing and CAD،Computer Aided Design
والنظرة التقليدية إزاء هذه التصنيفات تدعم فئة محدودة من فئات المنظمة، للمساهمة بتقديم أفكار هامة وكبيرة والنظرة التقليدية لمعظم الموظفين أنهم فقط مستخدمون، وليسوا مبدعين للأفكار. وإذا حدث أن كانوا مبدعين فإنهم يبدعون أفكارا بسيطة وغير هامة.
و في هذا السياق يؤكدDavenport (2001)  أنه إذا أرادت المؤسسات أن تكون ناجحة في القرن الواحد والعشرين فعليها أن تشجع موظفيها على إبداع المعرفة واستخدامها بشكليها المهم وغير المهم وخلق الأفكار الكبيرة والصغيرة على حدٍ سواء. ومن المؤكد، كما يقترح (2001)Davenport، أن على المؤسسات إذا أرادت أن تنجح في المستقبل أن تسمح لكل من يعمل بها على التفكير وتقديم الآراء أن تكافئهم وتشجعهم على ذلك. ومن أهم مقتضيات التشجيع: أن يعطى الموظف حرية في التفكير واستقلالية في العمل وفرصا للتمكين، وتشجيع روح المخاطرة وعدم قمع المحاولة والخطأ.

أهمية المعرفة وإدارة المعرفة؟

الإدارة التقليدية والمعرفة
عند ذكر كلمة "إدارة" يتبادر للذهن أحيانا وظائف الإدارة من: تخطيط وتنسيق ومراقبة للعمل وللعاملين. وهذا ما كان فعلاً ملائما للعهد الصناعي (The Industrial Era) إبان الثورة الصناعية وما بعدها. ولكن السؤال الحتمي في وقتنا الحاضر، هل هذه الوظائف ما زالت ملائمة إلى وقتنا الحاضر في عهد تسوده المؤسسة الأفقية ومجموعات العمل المستقلة والدافعية الذاتية لدى العاملين؟، هل هذه الوظائف ما زالت ملائمة في عهد عامل المعرفة (Knowledge Worker) بحسب وصف "بيتر دركر"[ii].
إن من أهم ملامح التغيير التي برزت في وقتنا الحاضر وبشكل خاص بحلول الألفية الثالثة، ظهور المعرفة واعتماد المؤسسات على المعرفة والعامل أو الموظف صاحب تلك المعرفة. وعلى الرغم من معرفة الدول النامية بما في ذلك الدول العربية، بالتغير الذي حدث في المؤسسات الغربية وفي الدول الصناعية تبعا لذلك، وعلى الرغم من استيراد الدول النامية للكثير من مصادر المعرفة كتكنولوجيا المعلومات، إلا أن الأنماط الإدارية لم تتغير تبعاً لذلك، ومازالت الدول النامية والكثير من الدول العربية تتبع أساليب إدارية تقليدية.
إن النمط الإداري التقليدي كان مناسبا لكي يتعامل مع ظروف مختلفة عما تعيشه الإدارة والمؤسسة في الوقت الحاضر. فالنمط الإداري البيروقراطي التقليدي ربما كان مناسبا حتى السبعينات من القرن الماضي. أما في الوقت الحاضر فالأمور تتغير على مختلف الصُعد. فثقافة العامل كانت أقل ودوافعه مادية وانتماء الموظف للنقابات كان أمراً ضرورياً. والبيروقراطية التي جاء بها ماكس ويبر كانت إيجابية ولا يمكن الاستغناء عنها، وتقسيم العمل كذلك كان أمراً أساسياً وكانت أدوار العمل ومهامه منفصلة ومستقلة عن العامل. وما زالت منظمات الأعمال حتى هذه الأيام تمارس النظريات والمفاهيم الإدارية التي نادى بها أناس مثل ماكس ويبر وهنري فايول وفريدريك تايلور منذ ما يقرب من حوالي مائة عام أو أقل، علماً بأن هذه المفاهيم كانت مناسبة إلى حد كبير في ذلك الوقت، وهذا أمر طبيعي أن تكون مناسبة حينئذ وما هو غير طبيعي هو في عدم استثمار المفاهيم المعاصرة التي تتناسب مع بيئة العمل المعاصرة أو عدم ممارستها في هذه الأيام، وما زالت الكثير من المنظمات تمارس مفاهيم مئة عام خلت. والجدول الآتي يبين الفرق الواضح بين النموذج الإداري القديم والنموذج الحديث، علما بأن معظم المؤسسات في الدول العربية مثلا ما زالت تطبق النموذج الإداري القديم، على الرغم من عدم ملائمته في عهد تتبنى فيه منظمات القرن الواحد والعشرون، المعرفة وأنظمة المعلومات الإدارية وتكنولوجيا المعلومات، وغيرها من مفاهيم إدارية معاصرة.


جدول 3 مقارنة بين النموذج الإداري الحديث والنموذج القديم من خلال بعض الممارسات الإدارية التقليدية وما يقابلها من ممارسات حديثة.
النموذج الإداري الحديث
        النموذج الإداري القديم
1-وجود تداخل بين الإدارة والعمل والعمال وعدم القدرة على الفصل بينهم.
2- صعوبة قياس أداء العامين وعدم وضوح المهام وعدم سهولتها.
3- هناك دوافع معنوية في العمل ومهارة العامل ومعرفته تحتم عليه تأدية عمله دون مراقبة شديدة.
4- يعمل المديرون في الإدارة الدنيا أو الوسطى منسقين ومساعدين ومدربين يساعدون في تنسيق المهام وليس في مراقبة أداء المهام.
5- تقويم الأداء من خلال منهجية التغذية العكسية ب360 درجة لا يستثني المديرين من تقويم مرؤوسيهم لهم.
6- يحتاج العامل إلى المعرفة وأنظمة المعلومات وتكنولوجيا المعلومات ربما أكثر من مديره.
7- المرؤوس يعرف المهام المطلوبة منه أكثر من مديره.
8- الجميع يفكر من موقعه والجميع يُنظر إليهم على أنهم شركاء لا أنداد أو عبيد. 1-استقلالية الإدارة عن العاملين فالمدير يدير والعاملون يعملون
2- وضوح بداية العمل ونهايته وسهولة قياس أداء العاملين وأغلب الأعمال يدوية.
3- فرضية الإدارة تقوم على أساس أن العمال تحكمهم أنانيتهم ومصلحتهم الاقتصادية بالدرجة الأولى ولا بد من مراقبتهم من قبل المشرفين للتأكد من أنهم يقومون بعملهم كما هو مطلوب منهم.
4- مهام المديرين في الإدارة الدنيا وفي الإدارة الوسطى كهمزة وصل ووسيط في نقل المعلومات والتقارير والتعليمات من الإدارة العليا للإدارة الدنيا ومن الإدارة الدنيا للإدارة العليا. والتسلسل الرئاسي أمر في غاية القداسة وتجاوز المرجع ذنب لا يغتفر.
5- لا يجوزتقويم المديرين فهم فوق الشبهات.
6- القدرات والمهارات الفكرية هي من اختصاص المديرين وليس العاملين.
7- معرفة المديرين ومهارتهم في المهام التي يقوم بها ويمارسها العاملين تفوق إمكانات العاملين ودور المديرين هو في إرشاد العاملين بكيفية تأديتهم لأعمالهم.
8- المدير يفكر والمرؤوس ينفذ ( وكما قل هنري فورد ذات يوم "أنا لا أريد إلا أيدي تعمل ولسوء الحظ أنها متصلة بأجساد).

Source: Davenport, Knowledge Work and the Future of Management, Op cit.
فمع موظف (أو عامل المعرفة) ومجتمع المعرفة لا تستوي الأمور بأدوات إدارية مضى عليها كل هذا الوقت دون تبديل أو تغيير، والأمر لا يتعلق بالتغيير فقط من أجل التغيير، ولكن أصبح الأمر حتميا على مؤسسات تعيش عصر العولمة بأبعادها التكنولوجية والثقافية الاجتماعية والاقتصادية أن تتغير في إدارتها لمواردها البشرية وهياكلها التنظيمية، لتصبح أكثر مرونة واستجابة للتغيرات البيئية الخارجية، ولتسمح لموظفيها باستخدام قدراتهم ومعرفتهم وكفاءاتهم، وتمكينهم من أجل تحقيق ميزة تنافسية مستديمة لمؤسساتهم. فهناك فرق بين توظيف قدرات فئة محدودة مثل الإدارة العليا في تحقيق التغيير والتطوير المنشود كما هو الأمر تقليديا، وبين أن يشارك الجميع في المؤسسة في محاولة استخدام مواهبهم وعقولهم في سبيل تحقيق تلك الميزة التي تم ذكرها، وخاصة في زمن المعرفة ورأس المال الفكري والإبداعي الذي لم يعد يقبل التفكير البيروقراطي الذي يُنكر إمكانيات فئات معينة لصالح فئات أخرى.

ظهور إدارة المعرفة وتطورها
لقد ظهر موضوع المعرفة وإدارة المعرفة منذ عدة سنوات(Nonaka and Takeuchi, 1995; Cortada, 1998)  (Nonaka[iii] من خلال الأدوات التالية:
·       الآلية  (Automation) في المصانع وحتى في الزراعة التي أدت إلى التخلص من أعداد كثيرة من الأيدي العاملة التي كانت تقوم بأعمال يدوية.
·       الحاسوب والمعلومات والحاجة لمعالجتها وظهور تكنولوجيا المعلومات وأنظمة المعلومات الإدارية وغيرها من أدوات تقنية.
·       ظهور ما يسمى بموظف المعرفة .(Knowledge workers) و على الرغم من أن هذه التسمية غير شائعة حتى هذا الوقت في مؤسسات الدول العربية، ولكن في كثير من المؤسسات في الدول الغربية أصبحت لإدارة المعرفة وظيفة مشابهة لوظائف المؤسسة مثل وظيفة إدارة الموارد البشرية ووظيفة الإنتاج والتسويق والتمويل، وهناك أيضا وظيفة للمعرفة ومدير لتلك الإدارة اسمه مدير المعرفة Knowledge Manager and Knowledge Management ، وتعد هذه الوظيفة محورية في مثل بعض من هذه المنظمات الغربية.
·       تزايد نسبة المؤسسات الخدمية التي جوهر عملها يقوم على المعرفة، وتزايد تداولها بين أفراد المنظمة مثل: البنوك، والفنادق، والشركات السياحية، وشركات التأمين، والإنترنت.
فمع بداية القرن الواحد والعشرون زادت، بشكل ملحوظ، عدد الوظائف التي تتطلب المعرفة في معالجة المعلومات وفي شركات الاتصال وأشباه الموصلات (Semiconductors) وشركات الإنترنت وغيرها.

مستقبل الإدارة

بناء على ما سبق من التحول نحو المعرفة فإن مستقبل الإدارة والممارسة الإدارية لا بد أن يتغير أيضا والجدول الآتي يفيدنا كثيرا في استعراض التغيرات المتوقعة للممارسة المستقبلية للمدير والإدارة.
جدول 4 التحول من الممارسة التقليدية في الإدارية إلى الممارسة المعاصرة:
الممارسة التقليدية     الممارسة المعاصرة
       المراقبة والتأكد من قبل المدير.
       العمل على تثبيت التنظيمات الهرمية.
       تعيين وتسريح الموظفين
       بناء المهارة اليدوية.
       تقويم الأداء المُشاهد والكمي (مثلا كمية الوحدات المنتجة يوميا).
       تحييد الثقافة وتجاهل النظام غير الرسمي.
       دعم البيروقراطية           المشاركة والعمل مع العاملين.
       التحول نحو عمل الفرق والمجتمعات الصغيرة داخل المؤسسة
       استقطاب الكفاءات والمحافظة عليها.
       بناء المهارة المعرفية
       تقويم الأداء الكيفي والنوعي المتعلق بالإنجازات المعرفية.
       بناء ثقافة المعرفة والتعلم
       تجاوز البيروقراطية وتحييدها 

هذا الجدول يبين حجم التحولات التي بدأت تتبلور في ممارسات المديرين وتوجهاتهم في المؤسسة المعاصرة نحو بناء مناخ تنظيمي مناسب للمعرفة، ومن أجل احتضان رأس المال البشري في مؤسسة القرن الواحد والعشرين. وهذه التحولات تعتبر بحق ثورة على الأنماط الإدارية التقليدية التي سادت في القرن العشرين وبدأت تتداعى في نهاياته تاركة المجال لأنماط حديثة تتلاءم مع التحولات البيئية المعاصرة.
وموظفو المعرفة يرغبون بالعمل بشكل مستقل وتمكّن، ودون مراقبة وإشراف مباشر، ودور الإدارة يجب أن يتمحور في تمكين هؤلاء من المشاركة في المعرفة والمهارة وتنسيق المعرفة، لأن موظف المعرفة ربما لا يتوافر لديه الوقت الكافي للتعاون والمشاركة في المعرفة، وهنا يأتي دور الإدارة في مساعدة موظفي المعرفة، بتخليصهم من الوظائف الروتينية من أجل التفرغ للقيام بالتعاون والمشاركة في المعرفة فيما بينهم.
من الجدير بالذكر هنا أهمية دور الإدارة في استقطاب المواهب النادرة للمؤسسة والمحافظة عليها وعدم التفريط بها بسهولة. فسر نجاح شركات مثل مايكروسوفت يكمن في القدرات الإدارية الفائقة للشركة في استقطاب موظفي المعرفة من أصحاب المواهب على مستوى صناعة البرمجيات بمختلف أشكالها. ومن هذا المنطلق يتوقع الكثير من علماء الإدارة من أمثال Davenport(2001)  أن تكون المنافسة في المستقبل حول استقطاب المهارة وأصحاب الكفاءات ممن يطلق عليهم بموظفي المعرفة. وللمحافظة عليهم يجب على الإدارة المعرفة التامة والأكيدة بأن المناخ البيروقراطي غير مناسب لموظفي المعرفة. فهم يرغبون بتأدية أعمالهم دون مراقبة شديدة ودون قواعد وإجراءات صارمة ونظم عمل رسمي،ة لأن إجراءات العمل البيروقراطية قد تشكل بيئة طاردة لمثل هذه الكفاءات، لأنهم لن يتمكنوا من الحرية في التفكير والاستقلالية في الإبداع والابتكار. ومن المعروف أن حرية التفكير والمحاولة والتجربة والفشل والإبداع والابتكار كلها أمور من صميم عمل موظف المعرفة أو المؤسسة التي تمتلك ما يمكن أن يطلق عليه "رأس المال المعرفي".
يلاحظ مما سبق في الحديث عن المعرفة والمهارة أهميتها بصفتها مقوماً أساسياً من مقومات تمكين العاملين ومنحهم، حرية في التصرف، وفي المشاركة، وفي التمكين. وهذا أمر طبيعي، فكلما زادت خبرة الفرد، وزادت مهاراته ومكتسباته المعرفية، زادت قدرته على تأدية مهام عمله بكفاءة واقتدار، واستقلالية أكبر. و على الرغم من ذلك، فالمعرفة والمهارة لا تكفي وحدها من أجل تمكين العاملين في منظمات الأعمال. لذلك تنظم إلى عنصر المعرفة عناصر أخرى أساسية من أجل تمكين العاملين. ولأهمية المعرفة كمحور أساسي من المفاهيم المعاصرة ومن مقومات التمكين كمفهوم معاصر فإنه سيتكرر الحديث عن هذا الموضوع في مواطن متعددة من هذا الكتاب. أما الآن فسيتم الحديث عن المقوم الثاني من ضمن المقومات الأساسية للتمكين وهو الاتصال وتدفق المعلومات. وفيما يأتي شرح تفصيلي عن هذا المقوم الحيوي.

 

ثانيا: الاتصال وتدفق المعلومات

بعد استعراض دور المعرفة والمهارة كمتطلب ضروري وحيوي من متطلبات تمكين العاملين، فإن العنصر الثاني الذي لا يقل أهمية هو الاتصال وتدفق المعلومات وتداولها والمشاركة الفاعلة بها عبر مستويات المنظمة جميعها. وتعد المعلومة سلاحاً هاماٍ يعتمد علية الموظف في عملية اتخاذ القرار وفي حل مشاكل العمل ومشاكل المستهلكين. فدون المعلومة الصحيحة أو المعلومة المتجددة، لا يمكن للعامل التصرف بحرية، واقتدار؛ لأنه، ببساطة، يفتقر للمعلومة التي تمنحه ثقة بالتصرف الصحيح دون خوف أو تردد من أن تصرفه قد يكون خطأً.
فالاتصال الفاعل في المؤسسات الناجحة[iv] يعزز في تلك المؤسسات مبدأ الإبداع. وهنالك خمسة خصائص لأنظمة الاتصال التي تعزز الإبداع والابتكار.

أنظمة الاتصال غير الرسمية:

تتسم عملية الاتصال غير الرسمية بلقاء أعضاء الفريق بشكل عضوي وبشكل طبيعي وتطوعي لمناقشة المشاكل التي تواجههم، وقد تتشكل الدافعية لديهم والرغبة القوية لحل المشاكل التي يواجهونها بسبب الشعور بالمسؤولية والتمكُن، وهذا الأمر هو الذي يدفعهم تطوعاً وعفوياً للشعور بالحاجة الماسة للالتقاء والتواصل من أجل حل المشاكل وتقديم أفكار جديدة، ومن أجل التعلم والمساعدة الجماعية لحل المشاكل وتقديم إبداعات جديدة. ويكاد يبدو هذا الطرح للقارئ مثالياً، ولكن هنالك شركات على أرض الواقع مثال(3M، G.M، Hp  و،IBM MacDonald's) قد استطاعت أن تقدم مثل هذا النموذج من الاتصال غير الرسمي. وهذا النموذج لا يكاد يبدو متاحاً أو ملحوظاً في مؤسسات الدول العربية أو دول العالم الثالث بشكل عام، علماً بأنه غير مستحيل. ولكنه يحتاج إلى شروط، من أهمها المناخ التنظيمي المشجع على روح، الإبداع والاعتماد على الذات (روح الفريق) والتوازن في الأهداف، وعدم قمع المحاولة، والتجربة والسماح بهامش من المخاطرة والخطأ

عملية الاتصال في المؤسسات الناجحة:

عملية الاتصال هي عملية مكثفة ولا تتم بشكل موسمي أو دوري أو بشكل نادر وإنما تتم بشكل دائم. ففي المؤسسات الناجحة لا يوجد حواجز بين رئيس ومرؤوس ولا يوجد رسميات في الخطاب ولا يوجد خوف من المسؤول لأن مصلحة المؤسسة ومصلحة العمل همٌ واحد لكل من المرؤوس والمسؤول فقد يقف المرؤوس في اجتماع ما، ويوقف الرئيس عن الحديث، أي يقاطعه دون ممانعة ودون تكّون مشاعر معادية بين الطرفين.
وتجدر الإشارة هنا إلى حوادث كثيرة في التاريخ الإسلامي في عهد الرسول r وفي عهد الصحابة فقد كانت درجة الاحترام للقائد أو المسؤول أو الأمير كبيرة ولا توصف، ولكن عندما يشعر أحد الناس أن من واجبه نحو المصلحة العامة أن يتدخل، فإنّه يتدخل مباشرة ويمكن أن يرفع صوته ليس من باب إساءة الأدب ولكن من منطلق إحقاق الحق وتجنب الباطل. فهذا أحد الصحابة يقف منتصباً في عملية توزيع الثروة الشهيرة التي قام بها عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" وقال له: إن حصتك يا عمر في القماش أكبر من حصصنا فأين العدالة يا عمر؟ كان هذا سؤالاً مشروعاً ولم يحصل على إجابة فيها تحذير وترهيب ووعيد لهذا الشخص السائل المتطفل، كما يراه البعض، ولكنه حصل على معلومات واضحة وكاملة بينّت له العلة والسبب الذي ربما أجاب عن تساؤل الآخرين فأراح سريرتهم واطمأنوا إلى عدالة أميرهم ونزاهته في التوزيع.
هذه المداخلة تبين المفارقات بين ما يحدث في المؤسسات الناجحة وبين ما حدث قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.
ويعلّق توم بيترز ووترمان(Peters and Waterman)  في كتابيهما "البحث عن التميز" على الممارسات التي تحدث في المنظمات غير الناجحة، مؤكدين أن المديرين التنفيذيين لا يجتمعون بالدوائر الأقل، أو نادراً ما يحصل ذلك دون أجنده رسمية، والمديرون والموظفون يتخاطبون فيما بينهم من خلال الخطابات الرسمية، وفي زماننا هذا الكثير من المؤسسات تستخدم الإنترنت أو الإنترانت في نقل المعلومات الرسمية وغير الرسمية، ولكن في مؤسسات الدول النامية، ما تزال عملية الاتصال عبر الإنترنت محدودة ولا تكاد تجد ذلك الحوار بين أعضاء المؤسسة عبر الإنترنت، على الرغم من أنّ هذه التقنية تتوافر لكل موظف، ولكن دون استثمارها بالشكل الأمثل.
في العديد الشركات الغربية توصف عملية الاتصال عندهم بـ "اتخاذ القرار بواسطة الزملاء" حيث تتم عملية اللقاء بشكل حر ومفتوح وعلى طريقة الحوار بالمواجهة، وتناقش المواضيع الحساسة دون حرج ويطرحون أي موضوع يمكن أن ينظر إليه في مؤسسات أخرى على انه من المحرمات التي لا ينبغي المساس بها. ومن أهم الأسباب التي لا تمنعهم من الخجل أو الحرج من طرح أي شيء هو ناتج عن أنهم يلتقون ويتحاورون بشكل دائم والاجتماع واللقاء عندهم ليست حالة نادرة أو حالة رسمية أو حادثة سياسية تهدف إلى مصالح خاصة أو لغايات عند مراكز قوى معينة (Peters and Waterman, 1982).
مما سبق نستنتج بأن انعدام اللقاءات والاجتماعات التلقائية وانعدام حوار الفرد مع الآخر وغيابه عنه لفترة زمنية طويلة يؤدّي إلى الابتعاد عن الحوار المفتوح والمكشوف، وكلما طالت الفترة الزمنية، زادت مقتضيات الرسمية والاحترام المبالغ فيه بين الرئيس والمرؤوس، انعدمت بالنهاية الشفافية والوضوح والصراحة.
لذلك على الإدارة أن تبتكر السبل الكفيلة بالحوار المكثف واللقاء على أسس غير رسمية لمناقشة أمور هامة وجدية، وعدم انقطاع المسؤول عن اجتماعات المرؤوسين في الإدارات الدنيا. وكثيراً ما يتعذر على المدير الأعلى القابع في "برجه العاجي" لقاء المرؤوسين بسبب انشغاله بأمور كثيرة تمنعه من لقائهم، ولكن ثبت من خلال الدراسات والأبحاث الميدانية بأن أولى أولويات المدير الناجح هو في لقائه المتكرر في المستويات الإدارية المختلفة، لبث الروح المعنوية في نفوسهم ونقل رسالة المؤسسة وغاياتها وأهدافها إليهم حتى يتبنوها بشكل صحيح. ويؤكد هذا برامج تطرح حالياً في أدبيات الاتصال مثل، الإدارة على المكشوف (Open book mgt.) حيث تنادي هذه البرامج الإدارية المنهجية بكشف جميع الأمور أمام جميع الموظفين، ليّطلع الموظف على كل شيء، وخاصة الأمور المالية، فلا يوجد أسرار ولا يوجد معلومات خاصة، وإنما الجميع في المؤسسة شركاء في المعلومة، فالمعلومة قوة بحد ذاتها تعطي الموظف ثقة بأن الإدارة لا تعمل بالخفاء وإنما الكل سواسية أمام المصائب أو المكاسب. وللحديث عن الأدارة بالمكشوف هنالك شعارات كثيرة في الأدبيات الغربية تحت عنوان Open Book Management والإدارة بالتجوال (Management By Wandering Around).

التمكين والإدارة على المكشوف منهجاً إدارياً حديثاً Open Book Management

يعد مفهوم الإدارة على المكشوف من المفاهيم ذات العلاقة بتدفق المعلومات وتداولها داخل المؤسسة، وإذا استطاعت المؤسسة تطبيق مفهوم الإدارة على المكشوف فإنه سيساهم مساهمة كبيرة في دعم مشروع التمكين في المؤسسة، لأن المعلومات وتدفقها تُعدّ من أهم مقومات التمكين وخاصة عندما تتدفق المعلومات بطريقة قائمة على مبدأ محكم ومدروس كنظام الإدارة على المكشوف[v].
يواجه مديرو الكثير من المؤسسات مشاكل كبيرة في التعامل مع مرؤوسيهم، وخاصة في القطاع العام. هذه المشاكل تتلخص على لسان حال الكثير من المديرين بالفشل والتقاعس والتباطؤ في العمل، وضعف الدافعية. وعندما تسألهم عن عملية التفويض، ورأيهم في موضوع التمكين، ومنح المرؤوسين نوعا من الاستقلالية وحرية التصرف؟ تجدهم ينبرون لك قائلين، كيف أثق بهؤلاء الناس؟ وهم بهذه المواصفات، من عدم حب العمل ونقص وقود الدافعية، إضافة إلى عدم الأمانة والصدق. فالموظف، من وجهة نظر المدير في الكثير من المنظمات هو موضع اتهام دائم، وعدم ثقة بأمانته وإخلاصه، وعدم ثقة بقيامه بالعمل دون مراقبة وإشراف متواصل.
ولكن عندما تسأل ذلك المدير عن مدى تطبيقه لأي مقومات ومقدمات قد تساهم في مد جسور من الثقة بينه وبين المرؤوسين، تجد أجوبة غير مقنعة في كثير من الأحيان، وعندما تسأله عن منهج جديد في الإدارة مثل: الإدارة على المكشوف يقول لك: هذه كلها أفكار لا تتناسب مع واقعنا وبيئتنا وهذه موضات جديدة في الإدارة لا تتناسب معنا ولا تتناسب مع مجتمعاتنا، ونحن لا ينفع معنا سوى سياسة المركزية والرقابة الصارمة. فدعونا نستعرض مبدأ الإدارة على المكشوف ونرى إمكانية تطبيقه وكيفية ذلك.
يتلخص مبدأ الإدارة على المكشوف الذي تحدث عنه الكثير من علماء الإدارة ومنهم Schuster,J., Carpenter, J and Kane[vi]
ويؤكد هؤلاء العلماء أن فتح سجلات الشركة للعاملين وإطلاعهم على الأرقام المهمة، ومصارحتهم بإنجازات وإخفاقات ومشاكل المؤسسة، أهم بكثير من إخفاء المعلومات عنهم. وهذا المنهج يحدد أهدافا مفهومة وواضحة ومترابطة للجميع. وفي معظم الشركات يهتم العاملون بالأرقام التي يحققونها وبمعدلات الإنتاجية الخاصة بهم فقط ويحسبونها بكفاءة عالية ويحسبون كذلك مكافآتهم المرتبطة بإنتاجيهم بكفاءة عالية فكيف بك عندما يربطون بين إنتاجيتهم، وإنتاجية الشركة، والعلاقة الطردية بين الاثنتين.
الإدارة على المكشوف ستمكن أفراد المبيعات من إدراك وتحديد حجم تأثيرهم وتأثير مستوى مبيعاتهم جميعا على أداء الشركة الكلي من ناحية مالية، بدلا من التقوقع ومعرفة عدد الوحدات التي باعها مندوب المبيعات فقط. فهو في هذه الحالة يتوسع إطار الاهتمام لديه من دائرته الضيقة إلى دائرة أوسع وهي دائرة الفريق والشركة كلّها، مما يساهم في مزيد من التعاون مع زملائه في سبيل تحقيق أرقام أفضل على مستوى القسم كله، وبالتالي الشركة كلّها، لأن هذا المبدأ يمنح الموظف حوافز مرتبطة بأدائه الفردي وكذلك بأداء الفريق.
ما هي المتطلبات؟
متطلبات مبدأ الإدارة على المكشوف تتلخص في:
·       عدم التركيز على المهام الفردية.
·       المتابعة والاتصال وتدفق المعلومات.
·       التدريب ضمن مناخ تنظيمي ملائم
·       تشكيل فرق عمل متجانسة وغير متنافسة ولا متصارعة.

المصارحة بالأرقام

في مبدأ الإدارة على المكشوف، يتعرف أعضاء المنظمة على أرقامها المهمة ويفهمون علاقات تلك الأرقام وتوابعها وآثارها، كما يكتسبون حساسية خاصة تجاه هذه الأرقام من خلال اللقاءات والاجتماعات التي تصبح جزءاً من العمل وليست على حساب العمل. وهذا يساهم في ضمان إخلاص جميع العاملين وانخراطهم في المؤسسة وتفهمهم لأهداف الشركة وغاياتها [vii].
 
مواضيع ذات صلة 
التمكين الإداري : (المفهوم الركائز المزايا)
ركائز التمكين ومقوماته
التمكين الاداري رسالة ماجستير
بحث عن التمكين الاداري
التمكين الاداري
مفهوم التمكين
بحث عن تمكين العاملين
التمكين الاداري وعلاقته بالرضا الوظيفي
تمكين العاملين مدخل للتحسين والتطوير المستمر
التمكين الاداري

مراجع وهوامش الفصل

[i]    Davenport, D. H. (2001) Knowledge Work and the Future of Management, Chapter in a Book, The Future of Leadership, Jossy-Bass, CA. pp. 67- 77.
[ii]    Drucker, P, (1989), New Realities: In Government and Politics/ In Economics and Business/ In Society and World View, Harper Business, HarperCollins Publishers, New York.
[iii] Nonaka, I. and Takeuchi,H. (1995), The Knowledge Creating Company, Oxford: Oxford University Press., Cortada, J. (1998), Where Did Knowledge Workers Come From, in Cortada, J (ed), Rise of Knowledge Worker, Portsmouth, N.H.: Butterworth-Heinemann.
[iv]Peters, T.J., and Waterman, R.H. (1982) In Search of Excellence, New York: Random House.
[v] Lioyd, B and Case, J. (1998), Open Book Management: A New Approach to Leadership, Leadership and Organization Development Journal, Volume 19 (7), pp. 392-396.
[vi] Schuster,J., Carpenter, J and Kane, P.(1996), The Power of Open Book Management: Releasing The True potential of Peoples' Minds, Hearts and Hands, John Wiley & sons, Inc. NY. USA.
[vii] علما بأن الإدارة بالمكشوف لا يمكن تطبيقها في جميع المؤسسات والشركات

Post a Comment

Previous Post Next Post