العرب والإسلام

العرب، قبل الإسلام، كانوا يتميّزون على غيرهم من الأمم بنمو الجانب العقلي، وبخلق يقدّر القيم المعنويّة.[1] وإليك توضيح ذلك:

1.    نمو الجانب العقلي: ينبغي التنبيه هنا إلى أنّ النمو العقلي غير مرتبط بالنمو العلمي والتكنولوجي؛ ففيلسوف مثل أرسطو كان يتميّز بنمو الجانب العقلي ولكنه لم يبلغ في علومه ما عند صبي يعيش في زماننا هذا. وإذا كان بإمكاننا أن نقدّر مستوى النمو العقلي لشخص ما بالإصغاء إليه عندما يتكلّم، فإنه بإمكاننا اليوم أن ننظر في الشعر الجاهلي فنرى تجليات النمو العقلي عند العرب قبل الإسلام. وعندما نعلم أنّ العرب كانت تلتقي في أسواق أدبية، وأنّهم قد بلغوا في البلاغة والقدرات النقديّة مبلغاً عظيماً، ندرك أنهم كانوا قد غادروا المرحلة الحسيّة من التفكير وأصبح تفكيرهم مجرداً؛ أي أصبحوا قادرين على التعامل مع عالم المعنى والفكر النظري.
2.    تقديرهم للقيم: من يقرأ تاريخ العرب في الجاهلية يدرك أنّهم كانوا يُقدّسون القيم الأخلاقيّة، وهذا واضح في تاريخهم الفكري والأدبي. وقد تميّزوا على باقي الأمم بالكرم والشهامة والفروسيّة والتضحية ...
على الرغم من ذلك كله ما زلنا نصفهم بالعرب الجاهليين. فما حقيقة جاهليتهم؟!

كانت جاهليتهم في أمور منها:
1.    تصوراتهم العقديّة، وممارساتهم العباديّة.
2.    مبالغاتهم في تقدير القيم؛ فلم يكن وأد البنات، مثلاً، نابعاً عن انحلال خلقي، بل كان الدافع إليه الحساسيّة الشديدة تجاه قيم الشرف. وحروب الثأر أيضاً كان الدافع إليها الوفاء، والأنفة من الذل والاستكانة.
3.    بعض العادات السلبيّة؛ فأخلاقهم، مثلاً، تأبى أن تزني المرأة الحرة، ولكنهم يقبلون ذلك للأَمة المستعبدة. وهم لا يرون في زنا الرجل عاراً. ولم يكونوا يورّثون المرأة. وغير ذلك من العادات، التي نجدها في كثير من الأمم حتى يومنا هذا.

الدين جعلهم أمة:
المعروف تاريخيّاً أنّ الجزيرة العربية لم تشهد، قبل الإسلام، قيام دولة تجمع العرب في كيان سياسي واحد، وإنما كان ذلك، أول ما كان، على يد النبي، صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، فما الذي كان يُشعر العرب بأنّهم أمّة؟!
إنّه الدين، وإنها القِبلة الواحدة؛ فمن إسماعيل حتى محمد، عليهما السلام، اعتاد العرب أن يجتمعوا في مكة مرّة واحدة في العام، على أقل تقدير. وحتى عندما انحرفوا، فعبدوا آلهة متعددة، وجدناهم يُحضرون هذه الأصنام فيضعونها في الكعبة. وقد أدّى اجتماعهم لما يقارب الـ 2400 سنة إلى وجود لغة مشتركة يفهمها كل العرب، سُميت فيما بعد بلهجة قريش. وأدّت اللغة المشتركة هذه إلى اجتماعهم من أجلها في أسواق أدبيّة. فالدين إذن هو الذي صنع منهم أمة ابتداءً، ثم جاء الإسلام فأعاد صياغتهم وجمعهم في نظام فكري وسياسي واحد، فكانوا قادة هداة لم يعرف التاريخ لهم مثيلاً.

 كانت مقدّمات لا بد منها:
1.     نمو عقلي وتفكير مجرد.
2.     تقدير للقيم المعنويّة.
3.     لغة أدبية مشتركة ومتفوقة.
4.     وعيهم وإدراكهم لحقيقة أنهم أمة.

هذه المقدمات كانت ضروريّة لنزول رسالة الإسلام، وذلك للآتي:
1.     القرآن الكريم معجزة فكريّة. وهذا يحتاج إلى نمو عقلي يساعد العربي على فهم الرسالة وبالتالي على حملها إلى باقي الأمم.
2.     القرآن معجزة بلاغيّة. وهذا يحتاج إلى أمة متميزة في هذا الجانب، بحيث تقدّر ذلك، وتفهمه، وتتفاعل معه، وبالتالي تكون مُهيّأة لحمل رسالة الإسلام، وتبليغه للناس، كل الناس.
3.     حمل الرسالة يحتاج إلى فهم متميز وأخلاقيّة متفوّقة، ومستوى عالٍ من القدرة على البذل والتضحية.
4.     رسالة الإسلام رسالة عالميّة جاءت للبشرية جمعاء، وهي تحتاج إلى أمة لتحملها وتستمر في حملها إلى يوم القيامة.

بذلك يتضح أنّ الأمة العربيّة كانت تُصنع في الجزيرة العربيّة، وتُهيّأ لتحمل الرسالة الخاتمة. بل إنّ رسالة إسماعيل، عليه السلام، كانت المقدمة التي قادت إلى النقطة التي التقى فيها قدَر العرب بقَدَر الرسالة الخاتمة. وجاء الواقع ليثبت ويجلّي هذه الحقيقة؛ فلم تعرف البشرية، في كل تاريخها، أمّة هادية تحمل الحقيقة إلى البشرية جمعاء إلا أمة واحدة هي أمّة العرب. ولم يعرف التاريخ أداءً مقارباً لأدائها في التبليغ والاستقطاب. وأنت تعجب من استيعابهم للفكرة، ورغبتهم الشديدة في تبليغها، وقدرتهم الخارقة على اقتحام الحواجز وإسقاط القوى والإمبراطوريّات الظالمة.
لم تنته وظيفة الأمة العربيّة بتبليغها الرسالة في فجر الإسلام، بل هي وظيفة مستمرة باستمرار وظيفة الإسلام، الكائنة إلى يوم القيامة. وستبقى عناصر شخصيتها الأولى قائمة في الأجيال المتعاقبة، مما يجعلها قادرة على النهوض من كبواتها، لتعود إلى فاعليتها الفذّة في عالم الهداية.
لقد استطاع الاستعمار الغربي في القرون الأخيرة أن يحتل الغالبيّة العظمى من بلاد العرب والمسلمين. ولم يقتصر الأمر على الغزو العسكري، بل تعدّاه إلى الغزو الفكري والحضاري. ومما زاد الأمر سوءاً أنّ ذلك كله قد حدث في مرحلة تخلف الأمة، وعلى وجه الخصوص تخلفها في الجانب الفكري والعلمي، فكان من المتوقع أن تُلحق الأمة بثقافة الغرب، لأنّ الهجمة كانت شرسة وشاملة، شُنّت على أمة بدت فاقدة لكل الأسلحة التي تساعدها على المقاومة والتصدّي. بل ظهرت، في بعض لحظات التاريخ، مأخوذة ومبهورة بما لدى الغرب من ثقافة وحضارة.
ثم كانت المعجزة؛ فإذا بالأمة تعود إلى ذاتها الحضاريّة، وتكتشف الإسلام مرّة أخرى، فكأنه تنزّل عليها ثانياً. وكل المؤشرات المعاصرة تقول إنّ الأمة لم تعد في موقع الدفاع عن الفكرة الإسلاميّة، بل باتت تقوم بهجمة مضادة على المستوى الفكري والعقدي، وذلك على الرَُغم من ضعف وسائلها العلميّة والتكنولوجيّة، وتخلُّفها النسبي في عالم المدنيّات. بل لقد غدت متفوقة في المستوى الثقافي والعقدي إلى درجة أن نجد بلداً كفرنسا تتنكر لقيم الديموقراطيّة التي ولدت في ربوعها من أجل أن تحمي ثقافتها من الغزوة المضادة، التي بدأت تُعلن عن نفسها في صورٍ ومظاهر مختلفة. وما قضيّة الحجاب التي أثيرت في فرنسا والغرب إلا بعض إرهاصات تداعي الثقافة الغربيّة أمام الفكرة الإسلاميّة.
لقد دخل الاستعمار الغربي الفلبين والمسلمون فيها أكثريّة، وخرج منها وهم أقلية. ودخل أندونيسيا ونسبة المسلمين 100% والآن تقارب الـ 95%. وقد تكرر ذلك في أكثر من بلد إسلامي، ولكنه لم يحصل قط في أيٍّ من البلاد العربيّة، بل على العكس من ذلك فإنّ نسبة المسلمين في بعض البلاد العربيّة قد زادت. وهذا إن دلّ فإنّما يدل على أنّ العربي المسلم مُحصن أكثر من غيره تجاه كل الغزوات الفكريّة، وهو وإن أصيب وأخذ في لحظات تراجع وعيه، إلا أنّه ما لبث أن عاد إلى ذاته الحضاريّة، وانتفض بعقيدته التوحيديّة. إنّها الشخصيّة المحفوظة بحفظ الرسالة الإسلاميّة.
واليوم يتجلى عجز الغرب الثقافي بلجوئه إلى القوة العسكريّة من أجل محاصرة الفكرة الإسلاميّة. وقد بات يستخدم كل وسائله المتطورة لتشويه صورة الفكرة الإسلاميّة في أذهان الشعوب الغربيّة، في محاولة لإقامة الحواجز التي يمكن أن تصد الحقيقة فلا تصل إلى تلك الشعوب، والتي عانت طويلاً من ظلمات الإلحاد والمادّيات وغدت تبحث عن طوق النجاة الذي باتت تجده في الإسلام. وما الجموع الغفيرة التي تدخل الإسلام في الغرب إلا المقدّمات التي تُرهص بإمكانية تكرار تجربة الإسلام الأولى على يد العرب مرّة أخرى، وهذا قد يفسر لنا بعض دوافع الغرب في حرصه الشديد على محاصرة العرب، ومحاولة تأخير نهوضهم، دون غيرهم من الأمم.[2]


 مواضيع ذات صلة



أثر الإسلام في حياة العرب
احوال العرب بعد ظهور الاسلام
اثر الاسلام في حياة العرب السياسية
اثر الاسلام في اللغة العربية
بحث عن اثر الاسلام في اللغة العربية
اثر الاسلام في حياة العرب الدينية
كيف اثر الاسلام كدين ومنهج في تشكيل حياة المسلمين ثقافياً وفكرياً
اثر الاسلام في حياة الانسان
حال العرب بعد الاسلام




[1]. الأمة العربية في معركة تحقيق الذات، محمد المبارك، مؤسسة المطبوعات العربية، دمشق، 1959م
[2]. للمتابعة يمكن الرجوع إلى:
1.       ثقافة المسلم بين الأصالة والتحديات، موسى الإبراهيم،دار عمار، عمان، ط1، 1998م
2.       دراسات في الفكر العربي الإسلامي، إبراهيم زيد الكيلاني وزملاؤه، دار الفكر، عمان، 1988م
3.       عبقرية العرب في العلم والفلسفة، عمر فروخ.
4.       العروبة والإسلام، أنور الجندي.

Post a Comment

Previous Post Next Post