نظريات التعلم:
   لا شك في إن الحركات الفلسفية في عصر النهضة وما تلاه قد أثرت في كثير من المدارس والنظريات النفسية وذلك في بدايات إستقلال  علم النفس على وجه الخصوص، وفي هذا السياق فإنه لا يمكن إنكار الأثر الايجابي لتطور الفلسفة (الاتجاه الوضعي التجريبي) والذي مثله أعلام مثل لوك (Locke)  وجون استيوارت ميل (John S. Mill) وجيمس ميل (James Mill) وهيوم (Hume)  وبيركلي (Berkely) وغيرهم - والمؤكد لأهمية الخبرات الحسية والارتباط بينها كأساس للنشاط العقلي والسلوك- على بعض الاتجاهات النفسية ومنها السلوكية. كما أنه لا شك فيه أن نظرية التطور قد أثرت في كثير من النظريات النفسية ولقد كان أثرها واضحا على كثير من السلوكيين، كذلك فالاهتمام بدراسة فيزيولوجية الجهاز العصبي والحسي، حتى ظهر ما سمي بالفيزياء النفسية،  جاء  بمنهج جديد يعتمد على ملاحظة السلوك الظاهري. كذلك علم نفس الحيوان الذي ركز على دراسة الإستجابات الطبيعية للحيوانات وتغيرها أثناء الحياة كان له دور في ظهور هذه النظريات، وهذا يعني بدء الاهتمام بتحليل الظروف المحدثة للتعلم، وأيضا بالاعتقاد التطوري أو الاستمرارية بين الكائنات مما سيعني إمكانية الاستفادة من التجارب التي أجريت على الحيوانات، إضافة إلى تزويدنا بأساليب بحثية تعتمد الملاحظة والتجريب وتحليل البيانات بأسلوب يمكن من قياس السلوك.
      لم يختلف علماء النفس حول أهمية التعلم في حياة الإنسان بل في إبراز و تفسير قضاياه. لقد كان تحديد أنواع التغير السلوكي الذي يطرأ على  الإنسان عند التعلم من القضايا التي تتصدى لها نظريات التعلم. وما ظهور الكثير من النظريات كالإرتباطية والشراطية والدافعية والإجرائية والجشطلطية ومعالجة المعلومات وغيرها إلا دليل على تعدد طرق دراسة التعلم، وإن كان القاسم المشترك بين هذه النظريات جميعا هو البحث عن عامل يتمثل في الوقوف على سلسلة من  المبادئ التي يتعلم بها الناس.
من هذه النظريات المفسرة للتعلم نتناول بعض النماذج منها النظريات السلوكية والمعرفية.

  1- النظريات السلوكية:
لعل أبحاث علماء النفس المهتمين بدراسة السلوك الحيواني، وأيضا أبحاث الفسيولوجيا كانت من أهم العوامل المؤسسة للمدرسة السلوكية، حيث تمثل أبحاث بافلوف الفسيولوجية في روسيا والتي قادت إلى سيكولوجية الاشتراط، وأيضا أبحاث ثورندايك رائد مدرسة كولمبيا الوظيفية على الحيوانات ونظريته في التعلم بالمحاولة والخطأ أهم الأساسيات للسلوكية الراديكالية.    غير أن جذور هذه المدرسة يمتد إلى الفلسفات الوضعية والنظرية التطورية. فقد »عرفت تعاليم كونت الوضعية والمبادئ والمفاهيم البراغماتية التي استمدها جيمس وديوي وأنجيل من النظريات التطورية إنتشاراً واسعاً وسريعاً بين المثقفين والمتعلمين في الولايات المتحدة الأمريكية. وانعكس هذا الواقع الجديد في العدد الكبير من الدراسات والطرائق التي استخدمت فيها والنتائج التي خلصت إليها، الأمر الذي مهد السبيل لظهور السلوكية التي ميزت علم النفس الأمريكي وطبعته بطابعها طوال هذا القرن، بل وامتد تأثيرها إلى كليات ومعاهد علم النفس في أنحاء متعددة من العالم. ومن أشهر تلك الدراسات ما قام به إدوار ثورندايك EDWARD THORNDIKE(1874-1949م).»[1]  
مؤسس هذه المدرسة ج. واطسن (Watson, John Broadus) (1875-1958) الذي عرف السلوكية بأنها توجه نظري قائمة على مبدأ أن علم النفس العلمي يجب أن يدرس فقط السلوك القابل للملاحظة، إقترح واطسن على علماء النفس أن يتركوا للأبد دراسة الوعي والخبرات الشعورية والتركيز فقط على السلوكيات التي نستطيع ملاحظتها مباشرة إقتناعا منه بأن قوة الطريقة العلمية قائمة على كونها قابلة للفحص بالملاحظة المطلوبة وأن إستعمال أي أسلوب سيعيدنا إلى عصر اﻵراء الشخصية حيث تضيع المعرفة. وترى هذه المدرسة بأن السلوك هو أي استجابة أو نشاط قابل للملاحظة تقوم به العضوية تجاه مثير، ومن هنا جاءت المعادلة الرئيسية     في المدرسة السلوكية :
      المثير إستجابة.
وبالرغم من الجدل والنقاشات والتي أثارت أفكار واطسون إلا أن المدرسة ثبتت أقوالها وازدهرت، ومما ساعد في تطور هذه المدرسة يمكن القول هي دراسات عالم الفسيولوجيا الروسي بافلوف.
ويقسم المؤرخون السلوكية إلى أنماط مختلفة وفقا لطبيعة الاشتراط (الإجرائي والكلاسيكي) كما يمكن تقسيم تطور السلوكية وفقا لطبيعة دراسة وتفسير الإشتراط ومناهج البحث.
   أ- التقسيم حسب طبيعة الاشتراط:
      *  الإشتراط الكلاسيكي: يمكن تصنيف كل من الارتباطيين من علماء الحيوان ومنهم بافلوف وثورندايك إضافة إلى السلوكيين الأوائل وتحديدا واطسن ومن تبعه من المجددين الذين لم يضيفوا الكثير من أمثال  قاثري (Gatheri) وتولمان (Tolman)، فالإرتباط هنا يحدث إجمالا نتيجة الإرتباط بين المثيرات والمؤدية إلى إستجابات ما يتم اكتسابها بالتعزيز على شكل:
     مثير شرطي+ مثير طبيعي - بالتكرار--- استجابة شرطية.
   * الإشتراط الإجرائي: يمثله سكنر (Skinner) ومن تبعه من أتباع السلوكية، ويعتمد الاشتراط فيه على اقتران الاستجابات بالمعززات وذلك بصرف النظر عن المثير أو ارتباط المثيرات ببعضها.

  ب- تقسيم تطور السلوكية طبقا لطبيعة دراسة وتفسير الاشتراط ومناهج البحث :
   * السلوكية النفسية: والتي عمدت إلى محاولة تفسير السلوك من خلال ربطه بالمثيرات الخارجية ويصنف كل من بافلوف وثورندايك تحت هذا النوع.
    * السلوكية المنهجية: وتعنى بالعلم نفسه ويمثلها واطسن حيث نادى بالتركيز على دراسة السلوك الظاهري بأساليب البحث العلمي.
    *  السلوكية التحليلية: وتعرف أيضا بتحليل السلوك، وترجع إلى سكنر، حيث بدأ محاولته لإخراج العلم من واطسنيته  حل أزمة العمليات العقلية بالمناداة بان أي نشاط عقلي يمكن تفسيره من خلال النشاط الظاهر المرتبط به. أي أنه يمكن تحديده سلوكيا. فعندما نصف حالة الفرد العقلية أو إعتقاده فإنما نصف ما يظهر عليه أو ما نتوقع أن يفعله من سلوك في الموقف.
  * السلوكية الاجتماعية: ظهر فريق من السلوكيين الجدد في الخمسينات، حيث حاولوا التوفيق بين السلوكية الواطسنية المسيطرة في أمريكا وبعض المسلمات المقدمة في النظريات الأخرى، ولعل أهم ما قدم منهم هو اعترافهم بأهمية العوامل الوسيطة (المعرفية والنفسية) فتحدث هل (Hull) على سبيل المثال عن العوامل الوسيطة والتي تشمل الحوافز والعادة والكبح.
كما أن لنظرية روتر في التعلم الاجتماعي والشخصية أثرها في نظرية باندورا في التعلم الإجتماعي.

     تحديد بعض المفاهيم الأساسية:
قبل التطرق لبعض نظريات التعلم نود التطرق لبعض المفاهيم المستعملة في هذه المدارس المفسرة للتعلم:
 * السلوك: الإستجابة الكلية التي يبديها كائن حي إزاء أي موقف يواجهه.[2]
* الإرتباطية: هو المذهب القائل بأن كل العمليات العقلية تتألف من توظيف الإرتباطات الموروثة والمكتسبة بين المواقف والإستجابات، وينظر إلى هذا المذهب باعتبار أنه الأساس في نظرية إرتباط المثير والاستجابة (م- س).[3]   
* الإستجابات: وهي تطلق على أية ردود فعل ظاهرة قد تكون عضلية أو غدية أو غيرها من ردود الفعل الظاهرة (بما فيها الصور والأفكار)  والتي تحدث كرد فعل لمثير ما. وقد أشار ثورندايك إلى ردود الفعل الفسيولوجية الظاهرية والتي يمكن مشاهدتها وقياسها والتي تربط السلوك بالبيئة المحيطة به. أما في الوقت الحاضر فان تعبير»الاستجابات «يطلق على ردود الفعل               الفسيولوجية (التي تقاس بطريقة مباشرة) والنفسية (التي تقاس بطريقة غير مباشرة).[4]
    * الإثارة: ولهذا التعبير أي الإثارة معنيان:) أي عامل خارجي (مثير ما يتعرض له الحي. وأي تغير داخلي في الكائن الحي نفسه عن طريق أي عامل خارجي.[5]

         أ- نظرية الإشراط الكلاسيكي:
        خلال دراسة العالم الروسي ايفان بترفيتش بافلوف (Pavlov, Ivan Petrovich)(1849-1936) للأفعال المنعكسة المتصلة بعملية الهضم لاحظ أن العصارة المعدية في الكلاب التي كان يقوم عليها بتجاربه لا تتأثر فقط بوضع الطعام في فم الكلب لكن تتأثر بمجرد رؤية الطعام بل كانت تبدأ بإفراز لعابها بمجرد رؤيتها للحارس الذي يقدم لها الطعام، بل وحتى بمجرد سماعها لخطوات قدميه قبل أن يصل الطعام إلى أفواهها فعلا. وأدرك بافلوف أن رؤية الحارس لم تكن المثير الطبيعي للإنعكاسات اللعابية ولكن رؤية الحارس قد أصبحت من خلال تعود الكلاب على ذلك المؤشر الإشارة أو العلامة التي  تستهدي بها على قرب وصول الطعام. وسرعان ما أدرك بافلوف أنه إكتشف ظاهرة لا بد أن يكون لها أهمية  قصوى في مساعدة الكائن الحي على التكيّف مع ظروف بيئته، وفي بادئ الأمر أطلق بافلوف على هذه الإنعكاسات المكتشفة حديثا إسم "إفراز الغدد النفسي" ولكنه أبدله فيما بعد بما أسماه "الانعكاس المشروط" والذي يعني إنتقال أثر المثير الطبيعي للإستجابة إلى مثير غير طبيعي (لا يسبب الإثارة أساسا) كنتيجة لاقتران المثيرين وتكرار حدوثهما.
تقوم الفكرة إذا على الارتباط فعلا يبن منبه طبيعي (م.  S) واستجابة طبيعية (ج. R)    !ج)  وهذا ما يحدث مع المتغيرات الطبيعية، إلا أن هذا لا يعتبر تعلما فهو السلوك الطبيعي. والتعلم أو الإشتراط يقوم إذا على القيام بسلوك جديد، وهذا ما يحدث عن طريق إرتباط المثيرات الطبيعية بمثيرات شرطية. إذ مع التكرار والدعم اللاحق يحدث الارتباط بين المثير الشرطي والمثير الطبيعي ويكتسب المثير الشرطي قوة المثير الطبيعي في إحداث  الإستجابة.
من تجارب بافلوف وضع على لسان كلب قليلا من مسحوق اللحم أو نقطة من حامض (المنبه الطبيعي م.) فوجد الكلب يستجيب لهذا المسحوق بسيلان اللعاب (استجابة طبيعية ج.) وانتقل إلى خطوة ثانية حيث أسمع الكلب جرسا واستجاب الكلب بأذنيه فقط لرنات الجرس وطبعا لم يفرز أي لعاب من غدده. أما الخطوة الثانية فكانت قرع الجرس ومعه وبعد برهة تقديم الحامض إلى لسانه واستجاب الكلب بإفراز اللعاب تحت تأثير الحامض وبعد تكرار التنبيه والإستثارة (جرس + حامض) مرات عدة حذف الحامض و أسمع الكلب الجرس فوجد أن اللعاب قد أفرز واستجاب لمجرد سماع الجرس لوحده.[6]
بهذا الشكل تم تأسيس علاقة مؤقتة بين نشاط نظام معين (اللعاب) وموضوعات خارجية (حامض + جرس) وأطلق بافلوف على هذه العلاقة إسم الفعل المنعكس الشرطي الذي يتألف من: فعل منعكس + منبه = ومع التكرار حدوث إستجابة للمنبه الثانوي التي كانت فقط للمثير الأصلي.[7] هذه التجربة نلخصها كما يبينه الجدول الموالي:


1- العوامل المؤثر ة في الإستجابة الشرطية:
إذا أردنا الإحاطة بكافة الظروف لإحداث الإستجابات الشرطية نجد:
     1- استبعاد العوامل المشتتة. 
      2 – مراعاة الوقت بين المنعكس الشرطي (الجرس) و بين المثير غير الشرطي (الحامض) وقد وجد بافلوف أن أفضل زمن ملائم لتكوين الرابط الشرطي هو الذي يمر متراوحا بين ربع و نصف ثانية (جرس +¼ أو ½ ثانية + حامض)، أما إذا قل هذا الوقت عن خمس ثانية فإن الإستجابة       لا تتكون ولا يعرف السبب في ذلك، فإذا زادت الفترة الزمنية بين الجرس والحامض عن 30 ثانية بطل شرط الإرتباط ولا تتكون الإستجابة.
     3- أن يسبق المنبه الشرطي (الجرس) المثير غير الشرطي (الحامض) حتى تحدث الإستجابة عن طريق التكرار.
    4- إذا تكرر حدوث المنبه الشرطي (الجرس) دون مصاحبة المثير غير الشرطي (الحامض) حدثت ظاهرة أطلق عليها بافلوف إسم الانطفاء.[8]

2- خصائص الإستجابة الشرطية:
    1- حتى يكون هناك منعكس شرطي يجب أن يكون هناك منعكس طبيعي.
     2- تخضع الإستجابة الشرطية للعوامل المحيطة بالعضوية أثناء إكتساب المنعكس الشرطي (سواء كانت داخلية خاصة بالكائن (هنا كلب بافلوف كالجوع والعطش) أو خارجية كصوت الجرس مثلا.
   3- تكوين المنعكس الشرطي غير مشروط بمثيرات خاصة كما هو الحال بالنسبة للمنعكس الطبيعي، فاللعاب لا يمكن إحداثه إلا بالطعام لكن يمكن إستبدال الجرس بالضوء أو أي مثير آخر لإحداث الإستجابة الشرطية (اللعاب).
   4- كلما كانت المثيرات المشتتة للإنتباه أقل كلما كان التعلم أحسن.[9]

3- التطبيقات التربوية لنظرية بافلوف:
        أُعتمد على الإشراط الكلاسيكي في تفسير السلوك وأُستخدم في معالجة السلوك غير السوي كعلاج حالات الإفراط في الخوف مثلا (الخُواف أو الفوبيا) الذي يستخدمه المعالجون السلوكيون والعاملون في ميدان الصحة العقلية والنفسية، واكتشف رجال التربية ما لهذا الإجراء من فائدة في تخفيض حدة الخوف في حالات مثل الخواف من الكلام والخواف من الإمتحانات والقلق خشية عدم التمكن من الأداء.
        من التطبيقات المستخلصة من نظرية بافلوف والتي نستطيع الإستفادة منها في ميدان التربية والتعليم لدينا مثلا:[10]
     1- ربط تعلم التلاميذ بدوافع من جهة وتعزيز العمل التعلمي لأن غياب المثير غير الشرطي يؤدي إلى إنطفاء الإستجابة المتعلمة.
      2- يمكن الاستفادة من هذه النظرية (عن إنطفاء الإستجابة) في إبطال العادات السيئة التي تظهر عند المتعلمين في القراءة والكتابة مثلا.
     3- تعديل السلوك في المجال الإنفعالي  وإلقاء الضوء على طرق اكتساب العادات وعملية التطبع الاجتماعي.
    4- حصر العوامل المشتتة للإنتباه في غرفة الدراسة لأن الموقف التعليمي الذي تكثر فيه المثيرات المحايدة لا يساعد على التعلم.
    5- عملية التعميم والتمييز من العمليات الهامة حيث يمكن أن نستفيد منها في فهمنا لكثير من مظاهر التعلم الإنساني لأن تعلم الكثير من المفاهيم والحقائق في المناهج الدراسية يحتاج إلى التركيز مثلا على المفاهيم والحقائق المتشابهة من أجل التمييز بينها.[11]
     6- يحتاج تعلم الكثير من السلوكات والمعلومات والمهارات إلى إحداث إقتران بين مثيرات شرطية وأخرى غير شرطية (عند تعلم القراءة مثلا إقتران الكلمة بالصورة ).
     7- التأكيد على المعلم ليجعل من خبرة التعلم خبرة سارة للمتعلم (حب الطفل للمعلم هو حب للمادة المدرسة وحب للمدرسة).

     ب- المحاولة و الخطأ:
  لم يكن ثورندايك (Thorndike,Edward Lee) (1874-1949) تابعا أو متأثرا بالفكر السلوكي (الواطسني) كما يعتقد الغالبية، إلا أن فكره لم يكن بعيدا عن الفكر السلوكي، إذ كان أحد تلامذة وليم جيمس الوظيفيين. » ومع أن ثورندايك يؤكد على إنتمائه الإرتباطي، ويرفض أن يوصف بالسلوكي، إلا أن مواقفه في ميادين علم النفس المختلفة التي اشتغل فيها تعارض إدعاءه، وتجعل منه رائداً من رواد السلوكية. وهذا ما نلمسه من خلال المقابلة بين تلك المواقف من جهة، ومبادئ السلوكية وأفكارها من جهة ثانية. »[12]
إن تجاربه على الحيوان ووصوله إلى فكرة التعلم بالمحاولة والخطأ القائمة على فكرة الإرتباط دفعت إلى تصنيفه ضمن السلوكيين، ونظرا كذلك لتداخل السلوكية والوظيفية. » فالتعلم من وجهة نظر ثورندايك هو تغير آلي في السلوك، ولكنه يقود تدريجيا إلى الإبتعاد عن المحاولات الخاطئة، أي إلى نسبة تكرار أعلى للمحاولات الناجحة، التي تؤدي إلى أثر مشجع... وقد   عرفت نظرية ثورندايك، التي ظلت مسيطرة لعدة عقود من هذا القرن، على الممارسات التربوية في الولايات المتحدة الأمريكية، باسم الترابطية لأنه يعتقد أن التعلم عملية تشكيل إرتباطات بين المثيرات واستجاباتها.»[13]
قام ثورندايك بأبحاثه على الحيوانات، منطلقا من خلفيته الوظيفية المبنية على الفكر التطوري المؤكدة لمبدأ الاستمرارية بين الكائنات، وأيضا لمبدأ التكيف وارتباط الأفعال بوظائف حياتية وبالتالي إحتمالية التطبيق.
        وفكرة الإرتباط ليست جديدة عند ثورندايك »غير أن الجديد في فكر ثورندايك هو العناصر أو الأطراف التي يحدث الإرتباط بينها. ففي حين يجد الإتجاه الإرتباطي أن الذكاء أو العقل أو العملية النفسية بوجه عام تنشأ بفعل الإرتباط بين الأفكار بعضها مع بعض، أو بينها وبين الحركات، يرى ثورندايك أن هذا الارتباط إنما يتم بين الحركات والمواقف.»[14] ويعطي الأهمية القصوى للتجربة الحسية في تشكيل العملية النفسية و» ينطلق ثورندايك من الوراثة كعامل أساسي في تحديد مستوى الذكاء. فالكائن الحي، حسب رأيه، يولد وهو مزوّد بجهاز عصبي مع ما يشتمل عليه من خلايا وأنسجة ووصلات. ويختلف الذكاء من فرد إلى آخر، ومن حيوان إلى آخر، تبعاً لعدد تلك الخلايا والأنسجة والوصلات. أي أن مستوى الذكاء يتوقف على عدد الوصلات العصبية؛ فكلما كان هذا العدد كبيراً كان مستوى ذكاء الكائن عالياً. »[15]
إحدى ابرز تجاربه كانت عن القطط التي كانت توضع في قفص صغير  له باب يُفتح إذا سحبت القطة خيطا مدلى داخل القفص لتخرج وتأكل الطعام الموجود خارج القفص. تقوم القطة الجائعة بحركات عشوائية إلى أن يُسحب الخيط بالصدفة، ولاحظ ثورندايك أن الوقت الذي تحتاجه القطة للوصول إلى الحل والخروج من القفص يتناقص تدريجيا إلى أن أصبحت قادرة     على سحب الخيط والخروج فورا. وقد نتج عن أبحاثه الطويلة وصوله إلى نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ والتي تفسر التعلم من خلال الإبقاء على المحاولات المؤدية إلى تأثير جيد مرضي وإضعاف إرتباط تلك التي لا تحقق الإشباع. وذلك وفقا لعدد من المبادئ (القوانين) التي إستمر في مراجعتها مؤكدا أهمية بعضها وضعف أهمية أخرى.

         1- قوانين التعلم عند ثورندايك:
حاول تفسير التعلم بارتباطات مباشرة بين المثيرات والاستجابات ووضع قوانين للتعلم منها:
               1- قانون الأثر:
     كي تُكتسب سلوكات (استجابات) يجب أن توصل الكائن الحي إلى حالة الرضا. وتقوم فكرة ثورندايك على أساس أن الفعل المؤدي إلى أثر جيد يميل إلى الظهور مستقبلا في حالة حدوث المثير. غير أن السلوك الذي لا يؤدي إلى الإشباع يُهمل ويميل إلى عدم الظهور مستقبلا. ينص هذا القانون على أن أي ارتباط قابل للتعديل بين موقف وإستجابة يزداد إذا ما صاحبته حالة إشباع ويضعف إذا ما صاحبته أو أعقبته حالة ضيق، و»الأثر بحديه: الإيجابي والسلبي، أي الثواب والعقاب، هو، في نظر ثورندايك، شرط لازم لاكتساب مختلف المهارات. فتعزيز إرتباط ما يتوقف على أثره الطيب، واستبعاد أو حذف إستجابة غير مرغوبة مرهون بما تتركه من أثر سيِّئ.»[16]  والمقصود بذلك هو المكافأة. يقول ثورندايك: "إنه إذا قام إرتباط قابل للتغيير وكان مصحوباً أو متبوعاً بحالة مُرضية فإن قوة الإرتباط تزيد. أما إذا قام الارتباط وكان متبوعاً أو مصحوباً بحالة مزعجة فإن قوته تضعف".[17] هذا القانون تم تعديله سنة 1932 إذ تبين عدم توازي تأثير الثواب والعقاب على عملية التعلم، فإنهما ليسا متغيرين متعاكسين. ففي حين يؤدي الثواب إلى تقوية الإرتباط، يؤدي العقاب إلى نتائج مختلفة فقد يؤدي إلى إيقاف السلوك مؤقتا، إلا أنه لا يزيله كما أنه لا يساعد مباشرة على تعديل السلوك إذا لم تقدم البدائل.

           2- قانون الإستعداد:
     يصف الأسس الفيزيولوجية لقانون الأثر أي يصف الظروف المساعدة لحدوث التعلم، ويفسر ثورندايك ذلك بالإعتماد على حساسية الميكانزمات العصبية لإحداث السلوك. فالإستعداد للسلوك يعني إمكانية القيام به كنتيجة للتهيؤ العصبي،  فالجوع مثلا قد يعني إستعداد الفرد للقيام بالبحث عن الطعام لما له من أثر إشباعي، في حين أن ما لا يقوم به مؤشر على عدم الاستعداد يفسر وفق هذا القانون معنى الارتياح أو الضيق ويصوغ ثلاثة حالات لإبراز معنى الإستعداد:[18]
     أ- حينما تكون الوحدة العصبية مستعدة للعمل، وتعمل، فإن عملها يريح الكائن الحي.
   ب- حينما تكون الوحدة العصبية مستعدة للعمل، ولا تعمل، فإن عملها يزعج الكائن الحي.
    ج- حينما تكون الوحدة العصبية مستعدة للعمل، وتجبر على العمل، فإن عمله يزعج الكائن الحي.

          3- قانون الإنتماء:
     يعتبر هذا القانون من أهم القوانين التي أضافها لنموذجه في صورته الأخيرة وتبعا لهذا المبدأ فإن تعلم الإرتباط يكون أكثر سهولة إذا كانت الإستجابة تنتمي إلى الموقف. ويعتمد إنتماء المكافأة أو العقاب على مدى ملاءمتها لإرضاء دافع أو حاجة عند المتعلم وعلى علاقتها المنطقية بموضوع الثواب والعقاب، فإثابة العطشان بالماء يجعل إستجابته أقوى مما لو كانت إثابته بالنقود.[19]

        4- قانون الإستقطاب:
        وفق هذا القانون تسير الإرتباطات في الاتجاه التي تكونت عليه في البداية، فمثلا إسترجاع قائمة كلمات عربية- فرنسية كما تعلمها التلميذ تكون أسهل من إسترجاعها في الإتجاه المعاكس فرنسية – عربية.

        5- قانون انتشار الأثر:
حسب هذا القانون فاثر الإثابة لا يقتصر على الرابط الذي يثاب عليه فقط بل يمتد إلى الروابط المجاورة التي تتكون قبل إثابة الرابط وبعد إثابته. فعلى سبيل المثال إذا عزز الأستاذ كلمة (موقف تعليمي) عند المتعلم فإن أثر الثواب (الإرتباط) يمتد إلى الكلمة (الموقف التعليمي) السابقة واللاحقة، وقوانين أخرى كقانون التعرف فكلما كانت عناصر الموقف الجديد معروفة عند المتعلم كلما سهل التعلم. أو التغير الإرتباطي ويعني إمكانية حدوث الإرتباط بظروف أو مثيرات أخرى. ويتم ذلك من خلال إعادة المحاولات مع إدخال واستبعاد بعض من عناصر الموقف تدريجيا مثال على ذلك حفظ قصيدة، فمع تكرار القصيدة وإضافة أبيات جديدة يمكن أن يتم الحفظ.
وتبقى» قوانين الاستعداد والمران (التدريب) والأثر تحكم جميع عمليات التعلم. لم يقلل ثورندايك أبدا من شأن هذه القوانين الثلاثة على الرغم من قيامه بإجراء تعديلات عليها مرات عديدة.»[20]

 2- التطبيقات التربوية لنظرية ثورندايك
منذ عام 1898 عندما عرض ثورندايك رسالته التي أهلته لنيل شهادة الدكتوراه تحت عنوان "ذكاء الحيوان: دراسة تجريبية للعمليات الإرتباطية عند الحيوانات" إستطاع أن يكون له أثر مباشر على نظريات التعلم وعلم النفس والتربية. ذلك الأثر الذي امتد طوال أربعة عقود. وتأثيره على موضوع التعلم لا زال قائما حتى الآن حتى وإن كانت النظرة السلوكية لمفهوم التعلم لم تعد تحظى بالاهتمام الذي حظيت به في الماضي. إذ أن الإتجاه المعاصر يميل نحو الأخذ بالنظرية المعرفية والتي أخذت تزداد رسوخا يوما بعد يوم.
وبما أن الإنسان يتعلم عن طريق المحاولة والخطأ فعلى المعلم توفير الظروف المناسبة للمتعلم لممارسة هذه المحاولات. وعليه فمن التطبيقات التربوية التي يمكن إعمالها داخل الفصل الدراسي، نذكر من أبرزها:
      * مبدأ مشاركة المتعلم: في قانون الإستعداد أو التهيؤ  إذ على المعلم إستثارة دافعية التلاميذ عن طريق إشراكهم في اختيار أنشطة التعلم وممارستها وتكييفها بما يستثير لديهم دوافع الفضول وحب الاستطلاع وجعل بيئة التعلم مثيرة وجذابة ومشبعة لحاجات التلاميذ ودوافعهم.
     * مبدأ تقوية الإرتباطات عن طريق الممارسة: ففي ضوء قانون التدريب، يجب على المعلم مساعدة تلاميذه على تكوين إرتباطات جديدة وتدعيم وتكرار هذه الإرتباطات الحسنة وممارستها أو إضعاف تلك التي هي غير مرغوب فيها، وينطبق هذا القانون على:
      * المهارات الحركية: الكتابة والقراءة ورسم الخرائط والأشغال الفنية....
     * بعض العادات السلوكية.
     * حفظ وتذكر المعلومات اللفظية ( كالقصائد ).
     * التدريبات اللغوية والتمرينات الرياضية والتجارب العملية.
     * مهارات الفك والتركيب والتجميع والأنشطة اليدوية الأخرى.
 * مبدأ الأثر: في ضوء هذا القانون فإنّه على المعلم استخدام الضوابط الفعالة التي يهتم بها التلاميذ أو تضايقهم بحيث يمكن التحكم في سلوك التلاميذ وتحقيق ما يشبع دوافعهم أحيانا ويثير قلقهم أحيانا. وعلى ذلك يوضح ثورندايك وظيفة المعلم في الصف كما يلي:
            - تقسيم موضوع الدرس إلى عناصره الأوّلية.
            - تمديد المثيرات المناسبة لكل عنصر مع اعتبار عدد كبير من الإتجاهات لديه.
            - ترتيب عناصر ومكوّنات الدرس حسب تدرجها.
            - تقديم العناصر بطريقة تسعى لحدوث الإستجابة الصحيحة.
            - تشجيع تكرار الإستجابات الصحيحة وتجنّب حالة المضايقة عند الطالب.
* مبدأ التدرّج:  يمكن الإستفادة من هذا المبدأ في وضع البرامج الدراسية والدروس، بمعنى أن تكون موضوعات الدراسة (مواضيع الدروس) في المراحل الأولى (في البداية) سهلة ثمّ تزداد صعوبة شيئا فشيئا، وذلك لكي تساعد الخبرات السابقة وما كان يسودها من شعور بالنجاح لحلّ المشكلات الجديدة وما تحتاج إليه من جهد وعناية. وما دامت العادات لا تكوّن نفسها فلا نكوّن عادات جديدة مادامت واحدة تؤدي الوظيفة، وأن نبني عادات عند المتعلم يستفيد منها.
        ويهتم ثورندايك بثلاث مسائل أساسية تؤثر في استفادة المعلم منها في عمله داخل الصف:[21]
    * تحديد الروابط بين المثيرات و الاستجابات التي تتطلب التكوين أو التقوية أو الإضعاف.
    * تحديد الظروف التي تؤدي إلى الرضا أو الضيق عند التلاميذ.
    * إستخدام الرضا أو الضيق في التحكم في سلوك التلاميذ.
    * التركيز على التعلم القائم على الأداء وليس الإلقاء.

        ج-  الإشراط الإجرائي:
هو الاتجاه الأكثر انتشاراً وبروزاً من الإتجاهات الجديدة في السلوكية، ولما كانت هذه النظرية نسقا منتظما لأبحاث علم النفس فإنه يشار إليها باسم التحليل التجريبي للسلوك، كما يطلق عليهما مسميات أخرى مثل الشرطي الإجرائي، الوسيلي. وقد تمكن صاحب هذه النظرية بوروس فريدريك سكنر (Buhrrus Frederic Skinner)  (1904-1990) بفضل أعماله العديدة أن يتبوأ مكانة مرموقة بين علماء النفس الأمريكيين، وأن تجد أفكاره سبيلها إلى المشتغلين بميدان التربية وعلم النفس في العديد من بلدان العالم، وتحظى باهتمامهم.
     تعتبر النظرية الإجرائية السلوك موضوعها الأساسي لأن السلوك ذاته جانب أساسي من جوانب الحياة الإنسانية وجدير بالدراسة لذاته. والسلوك قد يكون فطريا أو مكتسبا بدرجة ما وقد يعتمد على عوامل تسبقه (حوادث سابقة) كما قد يعتمد على ما يعقبه (عوامل لاحقة).
     هناك أنماط من السلوك تحدث بفعل بعض المثيرات أو يمكن إستحداثها بفعل هذه المثيرات (مثل إغماض العين إستجابة لنفخة من الهواء) أو بكاء الطفل لتأتي إليه أمه. والسلوك ليس مجرد حركة، فهذه النظرية لا تستبعد إعتبار الأحداث العقلية كالتفكير والتخيل أنواعا من السلوك. 
    
      1-  أنواع السلوك عند سكنر:
استجابة العضوية في المواقف المختلفة (الطبيعية والتجريبية) هي العنصر الأول في تشكل السلوك. وحسب سكينر قد تكون الاستجابات المتعاقبة متشابهة ولكنها لا تكون أبدا مماثلة، لذلك فمن الضروري ألا ندرس الإستجابات الفردية فحسب بل فئات الإستجابات. وبعض فئات الإستجابات يطلق عليها إسم ردود الفعل الاستجابية وهي الإستجابات التي تحددها المثيرات المنبهة لها أو تسحبها، وهذه الأنواع من الاستجابات هي التي تتمثل في العلاقة بين المثيرات والإستجابات المسماة بالإنعكاسات، وعلى سبيل المثال فإن البكاء الناجم عن تقطيع شرائح البصل الطازج ينتمي إلى نوع من الإستجابات أي أنه جزء  من إنعكاسات تختلف عن تلك الإستجابات التي تحدث بفعل هبوب الريح البارد على الوجه.[22]
قسم سكنر السلوك (الحيواني والإنساني) إلى نوعين: السلوك الإستجابي والسلوك الإجرائي. ووجد أن السلوك الإجرائي يحتل الجزء الأكبر من السلوك. فمعظم الخبرات الحياتية والعادات التي يكتسبها الإنسان أو الحيوان تتكون بفضل الإستجابات الإجرائية. في حين أن قليلاً منها يتكون عن طريق الإستجابات الإستجابية.


       أ- السلوك الاستجابي:
هذا السلوك يتكون من الإستجابات التي تستجرها مثيرات محددة معروفة مثل اتساع أو تضيق حدقة العين لكمية الضوء المؤثر في شبكية العين.
      ب- السلوك الاجرائي:
        سلوك يؤثر في البيئة، ويترتب عليه تغير في العالم بل إنه يغير في البيئة ذاتها بطريقة أو بأخرى، وهو  يماثل إلى حد قريب جدا السلوك الأدائي أو ما يعرف (باسم السلوك الإرادي أو السلوك الغرضي، القصدي) ومن الأمثلة على ذلك التحدث والإنتقال من مكان لآخر... ومن هذه الرؤية فإن الكائن الحي يكون نشيطا في بيئته وبالتالي فهو لا يدفع هنا وهناك في هذه البيئة مسلوب الإرادة.
وبعض أنواع الإستجابات التي يطلق عليها إسم الإجراءات نعرفها بآثارها البيئية وليس عن طريق المثيرات التي تستدعيها، وعلى سبيل المثال: قيادة السيارة  أو ركوب الدراجة أو المشي على الأقدام بهدف الوصول إلى مكان ما إجراءات متشابهة قد تنتمي إلى نوع واحد من الإستجابة.[23]
والسلوك الإجرائي هو سلوك معزز وتشكيل السلوك ينطوي على عملية تحديد الهدف السلوكي المرغوب فيه وتجزئته إلى سلسلة من الخطوات المتتابعة التي تقترب تدريجيا من بلوغ الهدف والتي ينبغي تعزيز كل خطوة منها.
إستراتيجيات تشكيل السلوك تتحدد من خلال بعض الخطوات منها:
  - تحديد النتائج التي قد تكون مؤثرة في التوصل إلى التغيير المطلوب.
  - تحديد العناصر السلوكية السليمة وغير السليمة بوضوح والقابلة للملاحظة .[24]        
  - تحديد حجم الخطوات (ليست صغيرة جدا حتى لا يضيع الوقت في الأمور الدقيقة جدا إن لم يكن ذلك ضروريا، ولا كبيرة فلا نستطيع تعزيز السلوك). 
  - تحديد المعززات التي ثبتت فعاليتها في معالجة مواقف التعلم المشابهة لها.
  - التأكد من إكتساب السلوك في كل مستوى.
     2-  تعزيز السلوك عند سكنر:
ما هو العامل أو الشرط الذي يؤدي إلى احتفاظ الكائن الحي ببعض الإستجابات دون البعض الآخر عبر المحاولات التي تتاح له؟ ويجيب سكينر، التعزيز.
     يعتبر التعزيز أحد الموضوعات التي أولاها سكنر اهتماماً خاصاً، وخصص له جزءاً هاماً من أعماله. فقد نشر بالتعاون مع فرستر (FERSTER) كتاباً ضخماً بعنوان "جداول التعزيز". ويتضمن هذا الكتاب 921 رسماً بيانياً لـ 250 مليون إستجابة قامت بها الحمائم في مواقف تجريبية إستغرقت 70000 ساعة.[25] ومن بين المتغيرات يركز سكنر وزميله على نوعين للتعزيز: المعدل والفاصلي. ويقوم الأول على أساس معدل صور الإستجابة. أما الثاني فيتوقف التعزيز فيه على الزمن وحده دون النظر إلى عدد الإستجابات.
وكل من النوعين إما أن يكون ثابتاً أو متغيراً. ففي المعدل الثابت يتم التعزيز بعد صدور عدد محدد من الاستجابات. وفي المعدل المتغير يكون التعزيز بعد عدد مختلف ومتفاوت من الإستجابات. بينما يتم التعزيز الفاصلي الثابت بعد مضي وقت محدد مسبقاً. ويتم التعزيز الفاصلي المتغير في أوقات متفاوتة وغير محددة.
»وهنا مرة أخرى. يقتفي سكنر أثر ثورندايك. غير أن فهمه للتعزيز يختلف عن فهم ثورندايك. فبينما يعني ثورندايك بالتعزيز الإرتياح والرضا وتجنب الألم، يراه سكنر متجسداً في كل واقعه تزيد من احتمال صدور الاستجابة التي كانت سبباً في ظهور تلك الواقعة.
ويعترف سكنر بأهمية المعزّزات الإيجابية، مثلما يعترف بوجود المعزّزات السلبية. ويرى أن التعزيز يتم عن طريق تقديم المعزّز الإيجابي أو عن طريق استبعاد المعزّز السلبي. أي أن الكائن الحي يتعلم إستجابة ما بأسلوبين: تقديم المعزّز الإيجابي واستبعاد المعزّز السلبي. ويتوقف سكنر للتمييز بين ما يعنيه بالتعزيز السلبي والعقاب. فالأول يحدث نتيجة حذف المعزّز السلبي.»[26]
ولا يستبعد سكنر العقاب من عملية التعلم إذ يمكن أن يكون عاملا هاما في تعديل السلوك »أما العقاب فهو، في نظره، أسلوب معاكس. إنه يعني تقديم معزّز سلبي (الضرب، التوبيخ، الصدمة الكهربائية...). ولذا فإن الآثار التي تتركها الحالتان مختلفة. فإذا كان التعزيز يقوي إمكانية صدور الإستجابة المطلوبة، فإن العقاب لا يقود حتماً إلى إضعاف إمكانية حدوث الإستجابة غير المرغوب فيها. »[27]
بهذا فهو يرفض السلوك بصيغة (منبه - إستجابة) ويعتبرها عاجزة عن ضبط السلوك بسبب إغفالها أثر الإستجابة في السلوك اللاحق. ويقترح صيغة أخرى ذات ثلاثة حدود:       1-الواقعة التي تحدث الإستجابة بسببها 2- الإستجابة 3-التعزيز.كما يبينه الشكل الموالي رقم(2)
شكل رقم (2) محددات السلوك حسب سكينر

  3- تصنيف المعززات:  
هناك عدة تصنيفات للمعززات:
      * كالمعززات الأولية والثانوية: الأولية أو الطبيعية أو غير الشرطية مثل الطعام والشراب. أما الثانوية أي الشرطية أو المتعلمة هي المحايدة في أصلها لكن بالإقتران مع مثيرات أخرى اكتسبت القدرة على التعزيز.
     * التعزيز الإيجابي والتعزيز السلبي: الإيجابي هو إضافة مثير معين مباشرة بعد السلوك المرغوب فيه كمدح التلميذ مباشرة بعد ظهور السلوك أو تقديم الإجازات أو من خلال إزالة سلوك مؤلم. أما السلبي هي المثيرات التي تريد العضوية التخلص منه أو التخفيف منها كتخفيف العقوبة المسلطة على المتعلم. فالمعززات السلبية هي عبارة عن مثيرات تزيد من إحتمالية ظهور الإستجابة عندما يتم إزالتها.
      * المعززات الغذائية (أنواع الطعام...)، المادية (الهدايا)، النشاطية (برامج ترفيهية)، الرمزية (المثيرات القابلة للإستبدال كنقاط الإستحقاق)، الإجتماعية (الثناء والابتسامة، مسح الشعر...).[28]

  4- التعليم المبرمج:
ربما يرجع الفضل في إنتشار إجرائية سكنر إلى ربطها بمجالات حيوية، كالتربية والتعليم والصحة النفسية مثلا، إذ عمل على تطبيق التعليم المبرمج باستخدام مبادئ التعليم الإجرائي في التعليم ومعالجة الأمراض العصابية.
وتتلخص فكرة سكنر عن التعليم المبرمج في أن تسلسل المادة المتعلمة في خطوات متتالية يحافظ على فعالية المتعلم ويسهل عليه هذه المهمة، »حيث أنه يوفر للتلميذ ما يوفره الصندوق للفأر أو الحمامة من خلال تغذيته ببرنامج يحتوي على دروس قديمة وجديدة. وما على التلميذ في هذا الموقف إلا أن يضغط على زر معين كي تظهر المادة التعليمية (تمارين، جمل، أسئلة...) على الشاشة. ثم يطلب منه حلها أو الإجابة عليها. وليتعرف على ما إذا كانت نتيجة عمله صحيحة أم خاطئة عليه أن يضغط على الزر المخصص لذلك. ويعتبر اتفاق الإجابة التي تظهر على شاشة جهاز التعليم وإجابة التلميذ بمثابة التعزيز. بينما يكون عدم الإتفاق بينهما فرصة لتعرف التلميذ على خطئه وتفاديه في المحاولة الثانية.»[29] هذا الأسلوب من التعليم يزود المتعلم في كل خطوة من خطوات تعليمه بالتغذية الراجعة، ويمكّن من إستخدام وسائل مختلفة في التعلم كالكتب المبرمجة والأجهزة (الوسائل) التعليمية المختلفة أي مصادر تعليمية مختلفة خلاف المعلم خاصة مع التطور التكنولوجي الهائل الذي يشهده عصرنا الحالي. ويتيح كذلك فرصة للتعلم الفردي.


5- التطبيقات التربوية لنظرية سكينر:
        حذر سكنر المعلمين من الممارسات الصفية المنفرة التي قد تقترن بسلوكهم أو بمادتهم المدرسة. وما يمكن الإستفادة منه من هذه النظرية هو إضافة إلى التعليم المبرمج يمكن الإشارة إلى بعض النقاط منها:
      - استخدام التعزيز الإيجابي وفي الوقت المناسب في عملية التدريس.
      - تحديد حجم السلوك المراد تشكيله وتسلسل الخطوات وتتابعها.      
      - ضبط المثيرات المنفرة وتقليلها حتى لا يزيد إستخدام أسلوب العقاب أو التعزيز السلبي.
      - معالجة السلوكات غير المرغوب فيها لأن السلوك ما هو إلا نتيجة عملية تعلم. لذلك كان مجال هذا العلاج من أكثر المجالات أهمية في تطبيق مبادئ الإشراط حيث يمكن تعليم الأفراد ذوي المشكلات السلوكية المختلفة طرق إضعاف أو إزالة السلوك غير المرغوب فيه.[30]
     - الاعتماد على التغذية الراجعة أي إخبار المتعلم بنتائج تعلمه في الوقت المناسب أي بعد المحاولة مباشرة، خاصة بنوع الخطأ الذي ارتكبه يساعده على كيفية تصحيح الخطأ وبذلك يسرع التعلم.  



[1] - بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2001، ص.225.
[2]- معجم علم النفس و التربية، ج.1 الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1984 ص.19
[3]- مصطفي ناصف، نظريات التعلم، ترجمة: د.علي حسين حجاج مراجعة: د. عطية محمود هنا، عالم المعرفة، سلسلة كتب يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر 1983، ص.19  
[4] - المصدر نفسه، ص.19  
[5]- المصدر نفسه ص.20.19   
[6]-عبد المجيد كركوتلي، بافلوف أبحاثه في الجهاز العصبي والتعلم والتدريب وظواهر أخرى، مطبعة الهلال، ط.3 1986  ص.43
[7] - المصدر نفسه، ص.45
[8]- ينظر عبد المجيد كركوتلي، بافلوف أبحاثه في الجهاز العصبي والتعلم والتدريب وظواهر أخرى، مطبعة الهلال، ط.3، 1986 ص.51.52.
[9]- صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه ص.148.149
[10]- المصدر نفسه ص.151.
[11]- ينظر عدنان يوسف العتوم وآخرون، علم النفس التربوي: النظرية والتطبيق، مصدر أعلاه، ص. 99.
[12] - بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، المصدر أعلاه، ص.225
[13] - صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.134
[14] - بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، المصدر أعلاه، ص.228
[15] - المصدر نفسه، ص.228
[16]- بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، المصدر أعلاه، ص.231
[17]- ينظر المصدر نفسه، ص.231.
[18] - صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.136
[19] - المصدر نفسه. ص.136.137.
[20]- مصطفي ناصف، نظريات التعلم، المصدر أعلاه،  ص.32   
[21]- صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.138. 139.  
[22]- مصطفي ناصف، نظريات التعلم، المصدر أعلاه،  ص.133
[23]- المصدر نفسه، ص.133
[24] - صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.163. 164.
[25]- ينظر بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، المصدر أعلاه، ص. 339. 340.
[26]- ينظر بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، المصدر أعلاه، ص. 339.
[27]- ينظر المصدر نفسه، ص. 339.
[28]- صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.161.
[29]- ينظر بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (ج.1)، المصدر أعلاه، ص.340 .341
[30] - صالح محمد علي أبو جادو، علم النفس التربوي، مصدر أعلاه. ص.166.

Post a Comment

Previous Post Next Post