اقتصاد المعرفة
1. نشأة اقتصاد المعرفة :
     سوف نعمد لفهم نشأة "اقتصاد المعرفة" الولوج إلى تلك المراحل الثلاث التي ميّزت

تطور المجتمعات البشرية أو ما يطلق عليها اصطلاحاً تسمية "التحولات الثلاث"، فمن المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي وصولاً إلى المجتمع المعرفي.
E التحول الأول: المجتمع الزراعي أو "اقتصاد الطبيعة"     
     قد يشكل وصف المرحلة التي اعتمد فيها الإنسان بشكل أساسي على الطبيعة بالتحول الأول بعض من التحفظ، باعتبار أن الإنسان ومنذ نزوله على الأرض كان يعتمد على الطبيعة ومواردها بشكل تلقائي، وبذلك فليست مرحلة المجتمع الزراعي من هذه الزاوية تحولاً، بل هي امتداد طبيعي، ونتاج فطري للسلوك البشري.
     هذا من ناحية علم التاريخ البشري عموماً، ولكن للتأريخ الاقتصادي معايير أخرى اعتُمِد عليها لوصف مرحلة ما بالثورة الزراعية والتي أنجبت مجتمعها الزراعي باعتبارها التحول الأول، فخلال قرون طويلة من الزمن لم يتشكل بالمفهوم الاقتصادي ذلك التكتل البشري الذي قد يعتبر مجتمعاً يحمل في طياته بذور نموذج اقتصادي متكامل، فعدد السكان كان قليلاً ومبعثراً والنشاط الاقتصادي كان معدوماً ولا يتجاوز حدود الاكتفاء الفردي.
     وعندما بدأت تتجلى ملامح تكتلات بشرية منظمة تعتمد على نشاط الزراعة كأساس لتوفير ما تحتاج إليه ليسد ضرورياتها من الحاجيات اليومية من خلال دورة نشاط اقتصادي زراعي منظمة، بدأ عمداء التأريخ الاقتصادي مسارهم في التدوين، باعتبار تلك المرحلة الثورة الزراعية التي أنجبت مجتمعها الزراعي بوصفه التحول الأول في ظل اقتصاد الطبيعة.
     وبدأت هذه الثورة أول ما بدأت على ضفاف الأنهار الكبرى في المنطقة القريبة من المنطقة الاستوائية - نهر النيل ودجلة والفرات والإندوس والجانح والنهر الأصفر - حيث التربة الخصبة والمتجددة، وبذلك تشكلت لدى تلك المجتمعات ظروف تلاءمت بوجه خاص مع وصف المجتمع الزراعي وهي الحقبة التي سماها المؤرخون بثورة العصر الحجري الحديث والتي دامت على مدى آلاف السنين منذ العام 10 آلاف قبل الميلاد (10000 ق م).
    وقد  اقترن ذلك التحول إلى المجتمعات الزراعية المستقرة (بعد أن كانت المجتمعات زراعية ومبعثرة ومتنقلة عبر مناطق الأرض) بالتسارع في زيادة المهارات التقنية، ومن ثم اتسع نطاق تشكيل الحجر لصناعة الأدوات والأسلحة وازداد أسلوب صناعتها صقلا، كذلك فإن امتلاك حيوانات أليفة عزز من مهارات تحويل صوف الماشية إلى ألياف لصناعة النسيج، وأدى التقدم في استخدام النار والتحكم فيها إلى ابتكار القمائن والأفران لصناعة الآجر والسيراميك، ثم بعد ذلك لتشكيل المعادن وتهيأت للإنسان تقنيات صناعة الأدوات المعدنية واستخراج المعادن من خاماتها الطبيعية ثم تشكيلها على هيئة أدوات وغير ذلك من مصنوعات يريدها، وهكذا أصبحت المجتمعات البشرية في وضع يُمهد لحدوث تحول عميق آخر ينتقل بها إلى بداية المجتمعات الحضارية  عبر اقتصاد الآلة من خلال الثورة الصناعية. [[1]]
E التحول الثاني: المجتمع الصناعي أو "اقتصاد الآلة"       
   تُجمع الكثير من الدراسات التاريخية أن عملية الانتقال عبر التحولين الأول والثاني (من الزراعة إلى الصناعة) كان نتاجاً طبيعياً لحزمة من الأسباب تمحور أهمها حول:
-         تضخم عدد السكان في المناطق الآهلة.
-         محدودية المصادر الطبيعية وعجزها عن توفير الكميات الكافية من ضروريات العيش.
-         التمايز الشديد للمناطق الآهلة من حيث المزايا الطبيعية المتوفرة.
-         تعقد أنماط الحياة وبروز رغبات أخرى لم يكن الناس يحس بها من قبل.
-         ظهور العديد من مصادر الطاقة الجديدة.
    فكان ضرورياً على سكان تلك الحقبات من الزمن، اللجـوء إلى ما يمكن أن يصطلح عليه بعملية التصنيع بدل عمليات الزراعة والصيد، ولن يكون استعمال مصطلح التصنيع نافذ المعنى إن لم نقرنه بمفهوم الآلة، فالآلـة أساس المصنع والمصنع عمود الصناعة، والصناعة تحدد معدلات ومستويات التصنيع، والتصنيع أنجب مجتمعه الصناعي الذي يحتوى بين طياته اقتصاده الميكانيكي.
E التحول الثالث: المجتمع المعرفي أو "اقتصاد المعرفة"    
لقد شكلت الحرب العالمية الثانية نقطة انعراج في مسيرة البشرية جمعاء، فبمجرد وصفها حرباً فقد تسببت في تغيير الكثير من وقائع ومظاهر العالم، واقتصادياً وبعد النظر إليها كقدر قُدر على البشرية، يعتبرها الكثير من المختصين نقطة التحول الثالث، والذي تمثل في الثورة العلمية أو التكنولوجية أو المعرفية. ومن أهم ما ميز هذا التحول عما سبقه، نذكر النقاط التالية:
-      اندماج العلوم في منظومات الإنتاج وتحول المعرفة إلى قوة منتجة.
-      تقلص المسافة الفاصلة بين ميلاد الاختراع وتطبيقه على أرض الواقع : ففي حين كان الفارق بين ظهور الاختراعات وتجسيدها على واقع الحياة العامة للناس يحتاج إلى سنين طويلة من الزمن، أصبح ذلك الفارق في ظل الثورة المعرفية لا يتعدى بأقصى تقدير بعض من السنوات، فلم تمض سوى خمسة سنوات عن اكتشاف الترانزستور حتى عم استعماله صناعيا، كما أن الدارة المتكاملة لم تحتاج سوى لثلاث سنوات لتدخل سوق الإنتاج والحياة العامة للناس. 
وفي هذا السياق، كتب "دانييل بيل" عام 1967 يقول : إن متوسط طول المدة بين اكتشاف مبتكر تكنولوجي جديد وبين إدراك إمكانيته التجارية كان ثلاثين عاما في الفترة ما بين عامي 1880 و 1919، ثم انخفض إلى 16 عاماً في الفترة ما بين عام 1919 و 1945، ثم إلى 9 أعوام.
-      تحول نمط الإنتاج العلمي والتقني، من مرحلة الإبداع الفردي خلال القرنين 18 و ‍19 إلى مرحلة الإنتاج الجماعي والمؤسساتي خلال القرن العشرين : بمعنى أنه خلال التحولين الأول والثاني كان الأفراد هم أساس الاختراع والابتكار، أما في ظل التحول الثالث فقد أصبحت المؤسسات والجامعات والجمعيات العلمية...الخ هي الرائدة في إنتاج الصناعات الابتكارية والتكنولوجية.
-      طغيان الطابع الأوتوماتيكي على وسائل ودورات الإنتاج : فخلال مرحلة الزراعة كانت وسائل الإنتاج لا تتعدى حدود بعض الأدوات البسيطة، وبظهور الصناعة تحولت تلك الأدوات إلى آلات ضخمة تعمل بمصادر الطاقة التقليدية كالفحم والبخار...، ولكل الثورة المعرفية طورت تلك الآلات وأدخلت ما يدعى بالعقول الإلكترونية ضمن نظام التشغيل للآلة فأصبح نظام تشغيلها أوتوماتيكيا دون الحاجة إلى كثير من اليد العاملة.
-      السيطرة على اللامتناهيات الثلاثة: فقد مكنت التكنولوجيا من التحكم في ثلاث لا متناهيات هي:
×       السيطرة على اللامتناهيات في الصغر: سواءً في الطبيعة الجامدة كالذرة والإلكترون...الخ، أو في الطبيعة الحية كالخلية والجينات والشفرات الوراثية... الخ.
×       السيطرة على اللامتناهيات في الكبر: مثل غزو الفضاء، ونشر الأقمار الصناعية فيه...الخ.
×       السيطرة على اللامتناهيات في التعقيد: ويقصد بها السيطرة الذاتية الكاملة على الآلات ودورات الإنتاج عن طريق الأوتوماتيكية والحواسيب...الخ، وكذلك السيطرة على التفاعلات المعقدة للنسق الاجتماعي عن طريق شبكات المعلومات والاتصال.

      على أساس ما تقدم ومن ناحية التأريخ الاقتصادي فقد ربط المؤرخون تطـور المجتمع البشري بثلاث مراحل أساسية شكلها انفجار ثلاث ثورات رئيسية، فمن "ثورة الزراعة" نحو "ثورة الصناعة" ومن ثم المعرفة باعتبارها أساس "الثورة المعرفية" أو ما يعرف بالتحول الثالث، والجدول التالي يلخص أبرز السمات التي ميّزت كل فترة، من خلال تبيين طبيعة العمل المنتج للقيمة، وعبر طرح ثنائية الشراكة بين الأفراد وعنصر الإنتاج الأكثر تزاوجاً معه، إضافة إلى إعطاء أهم أدوات الإنتاج المستعملة خلال كل حقبة.



[1] : آر إيه بوكانان، تعريب: شوقي جلال، الآلة قوة وسلطة : التكنولوجيا والإنسان منذ القرن 18 حتى الوقت الحاضر، عالم الفكر، العدد 259، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص: 21-22.

Post a Comment

Previous Post Next Post