انواع المجتهدين
المجتهد غير المستقل هو ما يطلق عليه المجتهد المقيّد، أي المقيّد بمذهب معيّن من المذاهب الفقهيّة، وبالرّغم من أنَّه لا يُعَدُّ من طائفة المجتهدين المستقلين الذين تجوز لهم الفتوى، إلاَّ أنَّ الأصوليين اختصوه في أمر الفتوى بغير ما ذكروه في العاميّ الذي ليس له حظ من علوم الاجتهاد. ومراتب المجتهد غير المستقل كالآتي:
الأولى: مجتهد في معرفة فتاوى إمام مذهبه، وأقواله، ومآخذه، وأصوله، ومقاصده، عارف متمكّن من التّخريج عليها، وقياس ما لم ينص عليه الإمام على منصوصه، وقد لا يقلّد إمامه في الحكم والدّليل، وقد لا يتابعه في كلّ ما قاله، ولكن يسلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، وهذا قد يكون صار إلى مذهب إمامه لا على جهة التقليد له؛ ولكن لأنَّه وجد أنَّ طريقه في الاجتهاد والفتوى أسدّ طريق. وهذا مرتبته دون رتبة الأئمة المجتهدين المستقلين بالاجتهاد، وتُعَدُّ فتواه في حكم فتوى المجتهد المستقل، يعمل ويعتد بها في الإجماع والخلاف([1]).
والثانية: مجتهد في مذهب إمامه، مستقل بتقرير المذهب بالدّليل، غير أنَّه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه، وإذا استدلّ بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له ولا يستوفي النّظر في شروطه، وقد اتّخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشّارع. كما أنَّ له علماً بأصول الفقه يساعده على الاستنباط والتّرجيح في مذهب إمامه، ولكنه أخلّ ببعض علوم الاجتهاد الأخرى، مثل: الحديث واللُّغة وغيرها.
وصاحب هذه المرتبة يتأدَّى به فرض الكفاية في الفتوى، ولا يتأدَّى به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى([2]).
والثالثة: مجتهد في مذهب إمامه، ولكن لا يبلغ رتبة مَنْ ذُكِرَ في المرتبة السّابقة، ولكنه فقيه النّفس، حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، يحرِّر أقوال المذهب ويرجِّح بعضها على بعض بما يعرفه من أطراف قواعد أصول الفقه دون إلمامه الكامل به، و لا يمتلك من علوم الاجتهاد ما يبلغه المرتبة الأولى
أو الثانية([3]).
والرَّابعة: مجتهد في مذهب مَنْ انتسب إليه، متقن لفتاويه، حافظ للمذهب، ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أنَّه لا يحيط بأدلة إمامه،  ولا يتعدَّى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة، وهذا هو ما عليه الكثير من المصنفين في مذاهب أئمتهم، وهؤلاء لا يجدون حاجة إلى معرفة الكتاب والسُّـنَّة واللُّغة العربيّة، أو سائر علوم الاجتهاد، لكونهم ملتزمين بنصوص أئمتهم، حيث كفاهم أئمتهم مَؤُونة استنباط الأحكام الشَّرعيّة من أدلتها، ولكن لا شكّ أنَّهم أعلى مرتبة من العاميّ، وأقلّ مرتبة من مجتهد المذهب([4]).
وصاحب المرتبة الثّالثة والرّابعة يعتمد نقله وفتواه في نصوص إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه([5]).



نقل الفتوى عن الميت:
إنَّ جواز نقل الفتوى فيما سبق ينحصر في النّقل عن المجتهدين الأحياء الموجودين عند نقل الفتوى عنهم، وقد اختلف الأصوليون في مسألة أخرى، وهي نقل الفتوى عن المفتي أو المجتهد الميت، وقد ذهبوا في ذلك مذهبين:
الأوّل: لا يجوز نقل الفتوى عن المفتي الميت، وذلك لأنَّ الميت لا قول له بدليل أنَّ الإجماع ينعقد بدونه، وأمَّا إنْ كان حيّاً فإنَّ الإجماع لا ينعقد بخلافه. وقد حكي إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات([6]).
وفي حكاية الإجماع في هذه المسألة نظر؛ لأنَّ هناك مَنْ ذهب إلى أنَّ الأصح في هذه المسألة جواز نقل الفتوى عن الميت([7]). وأمَّا مسألة أنَّه لا قول له لأنَّ الإجماع ينعقد بدونه فلا يسلم؛ لأنَّ الإجماع في المسائل الحادثة هو إجماع المجتهدين الأحياء، وأمَّا الأموات فإنَّ أقوالهم باقية في الحوادث التي أفتوا فيها، كما أنَّ موتهم لا يرفع إجماعهم، وإلاَّ لزم عن ذلك عدم حكاية أي إجماع في المسائل التي مات المجمعون عليها من الصّحابة والمجتهدين من بعدهم.  
والثّاني: أنَّ نقل الفتوى عن المفتي الميت تجوز، وذلك لأنَّ الرّاوي أو ناقل الفتوى إذا كان عدلاً، ثقة، متمكناً من فهم كلام المجتهد الذي مات، ثُمّ روى للعاميّ قوله، حصل للعاميّ ظنّ صدقه، ثُمّ إذا كان المجتهد عدلاً ثقة فإنَّ ذلك يوجب ظنّ صدقه في تلك الفتوى، كما أنَّ الإجماع انعقد على مرّ العصور على جواز العمل بهذا النّوع من الفتوى([8])، وذلك لقلّة المجتهدين أو عدم وجودهم. ثُمّ إنَّ مذهب المفتي  وأقواله لا تبطل ولا ترتفع بموته، ويعتد بها بعده في الإجماع والخلاف، ولا دليل يصلح للاستناد عليه في عدم اعتبارها.
ونقل الفتوى عن المفتين والمجتهدين الأموات إذا لم تكن جائزة فلن تكون هناك فائدة من اجتهاد العلماء السابقين في تأليف الكتب ووضع المصنفات واعتكاف طلاب العلم لدراستها.
وقد أجيب عن الاستدلال الأخير بأنَّ فائدة تأليف هذه الكتب تتلخّص في أمرين:
أحدهما: استفادة طريق الاجتهاد من تصرُّفهم في الحوادث وكيفيّة بناء بعضها على بعض.
والآخر: معرفة المتفق عليه من المختلف فيه([9]).
ولا يخفى أنَّ حصر فوائد تصنيف المصنفات في هذين الأمرين لا برهان عليه.
ويتضح من خلال مناقشة الرّأي الأوّل ضعف الأدلة التي استندوا عليها، ويكون الرّأي الثّاني هو الأرجح، والله تعالى أعلم.


([1]) انظر: إعلام الموقعين، 4/212، والمدخل، ص 375، وإجابة السَّائل شرح بغية الآمل، ص 414، وتيسير التّحرير، 4/249.
([2]) المدخل، ص 376، والإحكام: للآمدي، 4/242.
([3]) المدخل، ص 376، وإرشاد الفحول، ص 450، وحاشية العطار على جمع الجوامع، 2/425، وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، دار الفكر، دمشق، ط/1، 1408 هـ، ص 29.
([4]) انظر: إعلام الموقعين، 4/213، والمدخل، ص 376، وإجابة السّائل شرح بغية الآمل، ص 414، وآداب الفتوى، ص 29.
([5]) انظر: المدخل، ص 377.
([6]) المنخول، ص 480، و إرشاد الفحول، ص 449.
([7]) انظر: المسودة، ص 465.
([8]) تيسير التّحرير، 4/250.
([9]) انظر: المحصول، 6/97، والمنخول، 1/480، والمسودة، 1/465، وإرشاد الفحول، ص 450، وتيسير التّحرير، 4/249.

Post a Comment

Previous Post Next Post