دور الزكاة في البناء الاقتصادي الإسلامي:
الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام وقد تولى الله تبارك وتعالى تحديد مصارفها بقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}التوبة60 ،وقد جاءت هذه الآية في قلب آيات تتحدث عن النفاق والمنافقين,فالمنافقون منهم أهل الأموال الذين لا ينفقون إلا وهم كارهون وهم على ما آتاهم الله من فضله من الثراء والمال يغتابون الرسول r ويعيبون تصرفه في توزيع الصدقات فحدد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية مصارف الزكاة ولم يدع في ذلك مجالاً للاجتهاد ، وذكرهم بأنه سبحانه عليم حكيم،وقد سأل رجل رسول الله r أن يعطيه من الصدقة فقال له الرسول : (إن الله جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءاً منها أعطيتك) وقد قاتل أبو بكر الصديق المانعين للزكاة بعد وفاة النبي rولم يفرق بينهم وبين الذين ارتدوا عن الإسلام جملة وتفصيلا.
بعض ما تميزت به الزكاة:
1) أن الزكاة واجبة شرعاً فهي إلزامية وليست تطوعية وهي مما تميز وتفرد بها النظام الاقتصادي الإسلامي.
2) تعدد مصارف الزكاة حيث استوعبت جميع ميادين الحاجة في المجتمع المسلم.
3) وجوبها في جميع أصناف المال وارتباطها بالمال وليس بالمكلف حيث تؤخذ الزكاة من مال الصبي ومال المجنون فالزكاة واجبة في مال الصبي وفي مال المجنون إذا هي مرتبطة بالمال وليس بالمكلف ، كما أن انخفاض نصابها يجعل حصيلة الزكاة كبيرة مما يزيد من أهمية صندوق الزكاة ومقدرته على القيام بدور اقتصادي واجتماعي فعال.
 4) تخرج الزكاة نقداً وعيناً وتتفاوت مقاديرها من ربع العشر إلى العشر مراعاة لحال المكلف بدفع الزكاة.
ثانياً: بعض الآثار الاقتصادية لفريضة الزكاة:
ننتقل إلى الحديث عن الآثار الاقتصادية لفريضة الزكاة ونبدأ بالأثر التوزيعي للزكاة،لقد اهتم الإسلام اهتماما بالغاً في قضية التوزيع بشكل عام وتحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي واستخدم لذلك أدوات كثيرة أبرزها الزكاة.
وقد جاءت النصوص بالتأكيد على أمرين فيما يتعلق بالتوزيع:
الأول // التأكيد على ضرورة تداول المال بين كافة أبناء المجتمع والحيلولة دون تكدسه في يدي فئة قليلة من أبناء المجتمع,
الثاني // التأكيد على محاصرة الفقر ونفيه من المجتمع ما أمكن ذلك, وقد دلت النصوص الشرعية على خطورة تفشي ظاهرة الفقر المدقع في أوساط المجتمع الإسلامي, وأن مثل هذه الظاهرة تتنافى مع حقيقة الإيمان الذي قام عليه بناء المجتمع المسلم,. والزكاة ما هي إلا أداة واحدة من الأدوات التوزيعية التي شرعها الإسلام وقد دعا الإسلام إلى بذل المال وإنفاقه في وجوه البر
والزكاة صورة من صور الإنفاق الإلزامي الذي تتحقق به آثاراً كثيرة منها الأثر التوزيعي وقد حاول بعض مفكري الاقتصاد الوضعي التقليل من أهمية توزيع الدخل وخاصة في المراحل المبكرة للتنمية الاقتصادية, بحجة أن توزيع الدخل يضعف مستوى تراكم رأس المال وبالتالي تضعف الاستثمارات والأنشطة التنموية ولكن هذا الرأي غير مقبول في المنظور الإسلامي لأن عدالة التوزيع هدف أساسي دلت عليه النصوص الشرعية فهو واجب التحقيق أياً كانت الموارد المادية المتاحة للمجتمع,وبالتالي فهو غير مرتبط بمستوى النشاط الإنتاجي هذا من ناحية،ومن ناحية أخرى ليس بالضرورة أن عدالة التوزيع تضعف مستوى تراكم رأس المال حيث أن البنوك والشركات تسهم في تجميع المدخرات ورفع مستوى تراكم رأس المال،ويتكامل دور الزكاة في تحقيق الأثر التوزيعي مع غيرها من الأدوات التوزيعية المشروعة في النظام الإسلامي,إلا أن الزكاة أعظم أثراً في هذا الخصوص لأنها أداة جبرية لإعادة توزيع الدخل والثروة وليست تطوعية وهي كما جاء في حديث معاذ:(تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فهذا النص يبرز بوضوح وجلاء الأثر التوزيعي للزكاة,فهي تقتطع من دخل الغني وتضاف إلى دخل الفقير فتردم بذلك الفجوة بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء بل تسهم في تحويل شريحة من طبقة الفقراء إلى طبقة الأغنياء عملاً برأي الفقهاء الذين قالوا:بإعطاء الفقير كفاية العمر وكما هو رأي
عمر بن الخطاب أيضاً حيث يقول " إذا أعطيتم فأغنوا وإن راح لأحدهم مائة من الإبل"ولا شك أن هذا التوجه لدى بعض الفقهاء له دور كبير في تحقيق العدالة الاجتماعية وإغناء طوائف أو شرائح كبيرة من المجتمع بإعطائهم كفاية العمر التي تجعلهم ينتقلون من كونهم متلقين للزكاة إلى أن يكونوا من ضمن شريحة دافعي الزكاة,ومن بركة الزكاة أن توفر المال في يد الفقير هو أيضاً لمصلحة الغني التاجر الذي يزداد الطلب على منتجاته,وقد أدى التطبيق الشرعي للزكاة إلى تحقق عدالة التوزيع واختفاء الفقر في المجتمع المسلم,كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز t.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن أي نظام اقتصادي ينجح في تحقيق عدالة التوزيع يتمكن من رفع معدلات النمو الاقتصادي بشكل كبير وهذا يقودنا إلى أثر آخر وهو أثر الزكاة في مكافحة البطالة ورفع مستوى التشغيل.
من بين أهم الآثار الاقتصادية لفريضة الزكاة مكافحة البطالة ورفع مستوى التشغيل ويتضح ذلك من خلال الأمور التالية:
1) منع الإسلام إعطاء الزكاة للقادرين على الكسب, كما قال رسول الله r: (لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي) وعلى هذا فإن من حباه الله قوة في الجسم وقدرة على الكسب لا يجد أمامه إلا الجد والاجتهاد في طلب الرزق والمساهمة في تنمية اقتصاد المجتمع وأعمار الأرض فينفع نفسه وينفع غيره من المسلمين.
2) شجع الإسلام على توظيف المدخرات الفائضة عن الاستهلاك والمواد المدخرة لإخضاعها للزكاة فاعتبر المدخرات أموالاً قابلة للنماء يتعين على مالكها دفع ما مقداره 2.5 % من إجمالي قيمتها وهذه النسبة إذا لم يتم توظيف هذا المال وتوجيهه نحو الاستثمار فإن هذا المال سيتآكل وتأكله الصدقة وخلال ربع قرن يكون معظم هذا المال قد ذهب زكاةً، الإسلام اعتبر المدخرات أموالاً قابلة للنماء يتعين على مالكها دفع 2.5 % من إجمالي قيمتها وفي هذا يتحقق دفع الناس لتوظيف            ما يفيض عن استهلاكهم خدمة لاقتصاد المجتمع الإسلامي وحفاظاً على أموالهم من النقص والتآكل نتيجة لدفع الزكاة وقد قال عمر بن الخطاب: "اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة " وعندما يتجاوب المسلمون مع هذه الفريضة الشرعية فيدفع بمدخراتهم نحو الاستثمار فتكثر فرص العمل نتيجة التوسع في المشروعات الاستثمارية وينخفض بذلك معدل البطالة.
3) حدد الإسلام مصارف الزكاة في القرآن وأكد على أهمية مصرف الفقراء والمساكين من بين هذه المصارف حيث ابتدأ بهذين المصرفين قبل غيرهما كما أن رسول الله r قال لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن : (وأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم أو في فقرائهم) وعلى هذا تؤخذ الزكاة من ذوي الدخول المرتفعة (الأغنياء) الذين يكون الميل الحدي للاستهلاك لديهم يكون منخفضا,ومعنى انخفاض الميل الحدي للاستهلاك لدى الأغنياء أن نسبة ما يستهلكون إلى ما يملكون نسبة قليلة تجد بعض الأغنياء لا يستهلك مثلاً إلا 10 % من إجمالي دخله فهذا الميل الحدي للاستهلاك لديه منخفضاً وتدفع إلى مستحقي الزكاة الذين يكون الميل الحدي للاستهلاك لديهم مرتفعاً بمعنى أن نسبة ما يستهلكون إلى ما يملكون نسبة عالية فتجد بعض الفقراء يستهلك كل ما يقع تحت يده وربما يحتاج إلى الاستدانة فالزكاة إذن عندما تؤخذ من الغني وتعطى للفقير فإنها تؤدي إلى زيادة في الطلب على السلع الاستهلاكية ورواجها وبالتالي توسع المشروعات الاستثمارية وزيادة الإنتاج وما يصحب ذلك من خفض معدل البطالة.
هذه بعض الآثار الاقتصادية لفريضة الزكاة وهي آثار متداخلة ولا يمكن الفصل بينها فالأثر التوزيعي مثلاًً من شأنه أن يزيد معدل النمو الاقتصادي نظراً للتوافر المالي في أيدي الفقراء الذين يصرفون في الغالب كل ما يقع في أيديهم على السلع الاستهلاكية التي يحتاجونها فينشط الطلب على المنتجات وتتوفر فرص العمل,وتوفر فرص العمل يتحقق أيضاً من خلال سعي أصحاب رؤوس الأموال للمحافظة على أموالهم من خلال توجيهها للاستثمار بدلاً من الاكتناز وبهذا تكون الزكاة قد أوجدت تدفقات مالية أخرى بطريقة غير مباشرة من خلال توفر فرص العمل وهي تدفقات نقدية تسهم من جديد في تنشيط الطلب على المنتجات وتستمر هذه الدورة لمضاعفة النمو وتوفير فرص العمل بشكل مستمر     ما لم يقع المجتمع في حجب الزكاة وعدم إيصالها إلى مستحقيها وخاصة الفقراء والمساكين.
وللزكاة والصدقات بشكل عام أثر اجتماعي عظيم وهو تقوية النسيج الاجتماعي وإيجاد بيئة تسودها الرحمة والتعاون والتآلف وهو مقصد لا يقل أهمية عن إشباع الحاجات المادية بل هو مقدم عليها قال الله تعالى {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }البقرة263 ، وإضافة إلى ما ذكرنا من آثار اقتصادية فإن هناك آثار أخرى لم نتحدث عنها ومن ذلك أثرها في تنشيط الطلب الاستهلاكي سواء من خلال ما يقتطع من مال الغني ويعطى للفقير فيصرفه على السلع الاستهلاكية,  أو أن دافعي الزكاة ربما بادروا في شراء السلع الاستهلاكية والسلع المعمرة ونحوها قبل أن يحين موعد الزكاة ولا بأس في ذلك وليس تهرباً من الزكاة لأن الزكاة تقوم بتوجيه سلوك الإنسان,فالإنسان مثلاً على سبيل المثال إذا توجه لشراء العقارات التي تدر دخلاً فلا تجب الزكاة في أصولها وإنما في عائدها فإن توجهه لشراء العمارات ونحوها التي تدر دخلاً لا يعني تهرباً من الزكاة,فالزكاة تقود سلوك المستهلكين والمنتجين فلذلك يعتبر أثر من آثار الزكاة .
ونأتي إلى ختام هذه الحلقة وهي أيضاً آخر حلقة في هذه السلسلة في مقرر مبادئ الاقتصاد الذي يدرس لطلاب كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

Post a Comment

Previous Post Next Post