هناك أمراض تتعلّق بالتفسير بالمأثور:
- أولًا: الوضْع: مِن أهمّ أمراض التفسير بالمأثور: ما وضَعه الوضّاعون ونسبوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، وعلى وجه الخصوص: علي بن أبي طالب، وابن عباس. والمتأمِّل لكتب أهل السُّنّة، يجد أنّ ذلك فيها قليل، بل نادر جدًا، اللهمّ إلا في باب فضائل السُّوَر والآيات، وفضائل عليّ.
والحقيقة: أنّ الوضع على النبي -صلى الله عليه وسلم- شمل التفسير وغيره. وقد انبرى له جهابذة الحفاظ، فأظهروا عُوار تلك الروايات الموضوعة، بحيث أصبح التّحقّق منها سهل المنال؛ فلا يصعب تجنّبها وتطهير التفسير منها. وأمّا الوضع على الصحابة، فيظهر بكثرة في كتب الرّافضة، لأغراضهم العقائديّة المُنحرفة، وينسبون ذلك لعليّ بن أبي طالب وآل البيت.
وأمّا الوضع على ابن عباس، فعمدتُه: الكلبي؛ وقد تجنّب كثير مِن المفسِّرين ما روي عن ابن عباس بهذا الإسناد. والتفسير المنسوب إليه من هذه الطريق ذو قيمة علْمية في حد ذاته، ولكن لا تصحّ نسبتُه له، وإنما نسب إليه ليلقى رواجًا أكثر بِسبب ما هو معلوم مِن دعوته -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بأن يعلّمه الله التأويل، وما حبَا الله به صاحبَه مِن شَرف التربية في بيت النبوة، وكونه أحد أفراده؛ فهو ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخالته إحدى أمهات المؤمنين. وقد سئل الإمام أحمد عن تفسير الكلبي فقال: "مِن أوّله إلى آخِره كذِب".
ويلحق به: ما وضع عنه من مسائل نافع بن الأزرق، التي رواها الطستي والطبراني وغيرهما، وإسنادها واهٍ. وأمّا بعد طبقة الصحابة، فالأمر سهل، ولم يشتهر بالوضع في التفسير ممّن يروي عنه تفسير كتاب الله، غير مقاتل بن سليمان البلخي. وقد أعرض عن الرواية عنه وذكر تفسيره جلُّ المفسّرين. وعليه، فاجتناب هذا المرض سهل يسير -إن شاء الله تعالى-.
- ثانيًا: الإسرائيليّات: وقد تكلّمنا عنها، وهي باختصار شديد: ما تأثّر به التفسير بالثقافتيْن اليهودية والنصرانية؛ هكذا عرّفه بعضهم.
ويُمكن تعريفه: بأنّه الروايات التفسيرية المستقاة من أهل الكتاب. وقد رخّص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرواية عن أهل الكتاب بقوله: ((وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرَج)).
وفي هذه المسألة تفصيل، ومختصَره: إذا كان ما يُروى عن أهل الكتاب موافِقًا لما جاء في ديننا، فلا بأس بروايته، وهو مصدِّق ومصدَّق. وقد قال تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}، وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، وغير ذلك مِن الآيات...
وإذا كان ما يُروى عنهم مخالِفًا لِمَا جاء في ديننا، فلا يجوز روايته، إلاّ على سبيل الإنكار والتكذيب؛ وهو من تحريفهم، قال تعالى: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}.
أمّا إذا كان مسكوتًا عنه، كبعض التفاصيل لقصص القرآن أو أخبارهم ونحو ذلك، فلا حرج في روايته؛ ولا يصدَّقون في ذلك ولا يكذَّبون. وهذا القسم هو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تصدِّقوا أهل الكتاب، ولا تكذِّبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ})). وقد تقدّم كلام ابن كثير في ذلك في المحاضرة الفائتة.
- أمّا المرض الثالث: الرِّوايات الضعيفة: هذا هو الدّاء العضال الذي عانى ويعاني منه التفسير بالمأثور، وذلك لدقّته وخفائه، إلاّ على مَن رزقه الله البصيرة في علْم الحديث. وهو السبب الرئيس في حصول اختلاف التضاد في روايات التفسير بالمأثور، وربّما عن شخص واحد.
وليس هذا الدّاء خاصًا بالتفسير فقط، وإنما هو داء شمل جميع جوانب الدِّين، ويحتاج إلى تكثيف للجهود لتنقية الأدلّة الشرعية المأثورة من أحاديث وآثار ممّا رواه الضعفاء والمتروكون، وأدّى إلى حصول الالتباس والتناقض في بعض الجوانب. كما أن هذا الدّاء هو عمدة ضعف التفسير بالرأي المحمود أيضًا.
وبالنسبة للتّفسير بالمأثور، فيمكن علاجه مِن هذا المرض، بتجنّب النّسَخ التفسيريّة الضعيفة، وبيان حُكم أهل العلْم عليها، والاقتصار على النُّسَخ الصحيحة والحسنة الواردة عن أئمّة التفسير من السلف الصالح، مع الحذر الشديد في الروايات الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والاقتصار على ما ثبت منها.

Post a Comment

Previous Post Next Post