نص من عبق حضارتنا
مدينة مبسوطة في حقول الريحان، منازلها و أسوارها وأبوابها مضمخة بالحناء، مشمولة بأردية الشمس. الشفق فيها يعبق برائحة الزيتون، والنخيل العتيق يتحدث إلى السماء بلغة الأهلة، وأشجار البرتقال تزهر في أربعة مواسم. ثراها ظل الأصيل، والعصافير ـ آلاف العصافير ـ تشقشق في أفنائها تسمعها ولا تراها، وأنت لا تدري أهي وسنانة، أم أنها تتأهب للمرح قبل أن تنام، كي تحلم بمسك الليل وبقطرات الطل تتلألأ في غضون الغسق، وبحبات الخرطال تتناثر فوق العشب الندي.
مدينة يطالعك وأنت داخل إليها رداء (ابن يوسف) يلف (الكتبية) الفرهاء الجليلة، فلا تحس بابن تاشفين، و(دار الحمراء) إلا حينما تطويك أسوار المدينة، و تظلك في دروبها عرائش الكروم والياسمين. و(أبو العباس)  ـ أحد رجالها السبعة ـ يخاطبك حينما تنطلق أصوات المؤذنين من فوق الصوامع، فيحدثك عن السبحة الخضراء ... عن (عياض) وأزهار رياضه عن (العود الملقى في البحر على بطنه) ... فتتيه في مفاوز الزمن، وفي عينيك لؤلؤتان باردتان. وحينما تدغدغ همسات النسيم أذنيك، تشعر وكأنك في مضارب (المرابطين) تلتقي برجالهم الملثمين في الأزقة والدروب، يحملون الشموع في أيديهم اليمنى، والكتب في اليسرى، وسرعان ما تذكر خلوة (أغمات)، وهي على مرمى الظل منك، وتذكر (الخيرالدا)، ومياه النهر الكبير تخطر في أعطاف (إشبيلية) هادئة خفيفة خضراء، و تذكر (البديع)، وفوائد الشعر معلقة في أبهائه وسراديبه وقبابه. ويشغلك المساء، فتجد نفسك في زقاق طويل منعرج، والناس في دكاكينهم قاعدون وكأنهم لم يبرحوها منذ الزمن السحيق ... حركات الأيدي قديمة، وتعابير الوجوه ثابتة لا تريم، والسواعد تتحدى الأيام والليالي ... وفي بستان (المسرة) تغيب نظراتك في مياه الصهريج، فتختلط بأشباح النخيل وأطياف السماء وعيون النيلوفر، وكل شيء يبدو في لون خضرة غامقة متموجة دافئة. وتسمع الطبول والدفوف و المزامير ـ أو يخيل إليك أنك تسمعها ـ فيبدأ الرقص والسمر، ويمتزج الفرح بالوحشة، والقرب بالهجران، وبنات الأطلس في أرديتهن البيضاء، ومجاديلهن الملونة يملأن المكان ترنيما وحركة وبهجة.
الزلال في مائها زلال، والنسيم في أكنافها شفاء، والعطر في رياضها عشق وصبابة، نهارها رجاء، وليلها دعاء، وفجرها صلاة واستجابة.
محمد الصباغ، مجلة المناهل نقلا عن كتاب «المطالعة والنصوص»، االجزء الثالث، الطبعة الثنية (1988)، ص: 57 - 58.


Post a Comment

Previous Post Next Post