البرجوازية البيروقراطية


منذ ما يقارب الثلاثة عقود، وبنتيجة جملة من التغيرات التي شهدتها البنى الاقتصادية – الاجتماعية في العديد من البلدان، شاعت في الادب السياسي والاقتصادي جملة مفاهيم من بينها مفهومي " البرجوازية البيروقراطية " و " البرجوازية الطفيلية " كأداتين تحليليتين لتوصيف طبيعة السلط السائدة في تلك البلدان. منعا لأي التباس فإن الجهد في هذه النقطة سيتركز على طرح بعض الافكار المتسائلة والملاحظات ذات الطبيعة المنهجية والنظرية كمساهمة متواضعة في اثراء هذه النقطة ذات الطبيعة الهامة، واعادة النقاش بصددها مجددا [1].

ابتداء، يتعين الاشارة الى أن البحث التاريخي الملموس للبنية الطبقية ولديناميكية المجتمعات يتطلب جهازا مفاهيمياً ملائما يسمح يكشف مجموع تعقيد هذه لبمجتمعات، وبلورة واستخلاص السمات الاكثر جوهرية فيها. ويجب القول من دون مبالغة أن هذا الجهاز المفاهيمي لم يحدد ولم بعرف بشكل دقيق وموحد. ولهذا فقد لا يبدو " مثيرا للدهشة أن مفاهيم شديدة الوضوح للوهلة الاولى كالطبقة والفئة ..... بحاجة الى تعريف " [2]. لابد، اذن، من تدقيق هذه المفاهيم واعادة قراءة تسمح لنا بتجاوز النزعة التبسيطية في احيان كثيرة.

ولكي يمكن ضبط مفاهيم : البيروقراطية والطفيلية نحتاج الى مضمون مفاهيمي مشترك يساعدنا على التمييز بين مفهوم " الطبقة " و مفهوم " الفئة ". إن هذه الملاحظة ناجمة عن ضرورة انتاج مقولات نظرية تسمح بتوصيف دقيق، صارم ومنضبط للبنية الاجتماعية، وكذلك الكشف عن تلك الحلقات الوسيطة بين الحياة الاجتماعية ونمط الانتاج المادي.

وقبل المباشرة في الحديث التفصيلي عن الطبقة الاجتماعية ومحاولة ضبط المفهوم يتعين علينا التأكيد على الملاحظات التالية [3]:
أ‌.       لا يمكن الحديث عن الطبقات الاجتماعية من دون ربطها بفترة تاريخية محددة من تطور نمط الانتاج المادي، الملموس، ومن دون ربطها بنمط انتاج محدد، أي تاريخية وملموسية الطبقات الاجتماعية. إنها، أي الطبقات، ليست بنى نظرية مقطوعة الجذور عن الواقع، إذ أن مقولة (الطبقة)، كتجريدة علمية، تستمد مشروعيتها ومصداقيتها المعرفية من كونها تعكس نمطا من العلاقات الناشئة بين مجموعة محددة من الناس لها اساس مشترك وعناصر مشتركة. يتعين هنا إذن استدعاء مفهوم " نمط الانتاج " كمنطلق للتحليل .
ب‌. وتعني الملاحظة اعلاه أن الحديث عن الطبقات الاجتماعية وتحديد اشكال العلاقات بينها لا معنى له الا بعد الكشف عن العلاقة بين مفهوم الطبقة ومفهوم نمط الانتاج. يستلزم الحديث، اذن، عن طبقات اجتماعية ضرورة القيام بقراءة فعلية للبنية الاجتماعية، في ديناميكيتها، قراءة خاصة لمجتمع له خصوصيته، التي لا تنطبق عليها بعض المفاهيم النظرية العامة، وبالتالي لابد من القيام بجملة من التوسطات النظرية التي بامكانها أن تفتح الطريق أمام قراءة للواقع وانتاج معرفة نظرية عنه والكشف عن المكونات الفعلية للبنية الاجتماعية (بطبقاتها وفئاتها). إن الطبقات الاجتماعية ليست شيئا جامدا، ثابتا لا يتغير، معطى منذ البداية، بل إنها منتجات للتطور التاريخي الملموس، وانها في الوقت ذاته قواه الديناميكية المحركة دوما.
ج‌.   لا يمكن الحديث عن طبقة أو طبقات متوازية لأن الحديث يجب أن يبدأ بالبنية الطبقية في مجتمع محدد، تلك التي تتكون من ترابط طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، تتصارع في مستويات متعددة قائمة في التشكيلة الملموسة. وبالرغم من الانحسار المؤقت لدور العامل الايديولوجي والمساعي المحمومة لتميعه و " اخفائه بقرار " لأسباب معروفة، لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذه المساحة، إلا أنه لابد من التأكيد على حقيقة بسيطة جدا ولكنها ضرورية، وهي أن مفهوم " الطبقات الاجتماعية " لا يمكن فصله عن مفهوم " الصراع الاجتماعي "حتى وإن " خفت " حدة هذا الصراع في السنوات الاخيرة، وإتخذ اشكالا " باهتة " [4].

وينطرح على الفور سؤال مهم :  ما هي أهمية هذه الاطروحة في التحليل ؟ أعتقد أن تلك الاهمية تتجلى في ثلاث قضايا :
·       الاولى: وهي أنه لا يمكن القيام بتعريف الطبقة الاجتماعية بحد ذاتها، منعزلة، بل يمكن تحديد جوهرها الملموس في ارتباطها الفعلي الوثيق مع الطبقات الاخرى ضمن بنية اجتماعية محددة وتشكيلة ملموسة.
·       الثانية : لا يمكن إنجاز مهمة تعريف الطبقة من دون تحديد طبيعة البنية الطبقية في اللحظة الملموسة.
·       الثالثة : يتعين ابراز مفهوم الطبقة في حالته الديناميكية، رؤية الطبقة في ارتباطها الوثيق مع الطبقات والفئات الاخرى وفي صراعها معها، أي رؤية هذا التشكل ضمن قانون الوحدة/الصراع.

إن اعادة بناء الاطروحات المنهجية المتعلقة بالطبقة الاجتماعية [5] تمكننا من القول بأن هناك حاجة لمفهوم مركب للطبقة الاجتماعية يأخذ بنظر الاعتبار لحظات اخرى، عدا اللحظة الاقتصادية. فإذا كان تعريف " الطبقات " يتم في اعمال نظرية متنوعة بالنسبة الى موقعها في الحقل الاقتصادي، أي بالنسبة للمكان الذي تشغله في تنظيم الانتاج الاجتماعي محدد تاريخيا، فإننا نستطيع أن نستنتج أن للموقع الاقتصادي دورا رئيسيا في تحديد الطبقة الاجتماعية. ففي هذا المجال تبرز أطروحة ماركس الشهيرة: " ستكون الطبقات الاجتماعية كلمة فارغة إذا لم نعرف العناصر الاقتصادية التي تقوم عليها في المجتمعات المعاصرة مثل : العمل الاجير، رأس المال، التبادل، تقسيم العمل، القيمة، النقد، السعر .....الخ " [6]. ولكن يتعين علينا أن لا ننسى ملاحظة انجلس حول العامل الاقتصادي التي تشكل اطروحة منهجية هامة في هذا المجال ولكن جرى تأويلها بطريقة خاطئة من بعض " العارفين " بالفكر الماركسي أو نقاده. كان أنجلس يتحدث عن العامل الاقتصادي في التاريخ باعتباره المقرر في نهاية المطاف وليس الوحيد. فعلى سبيل المثال إن " تماثل " المداخيل أو الشروط الاقتصادية للوجود أو المعيشة لا يكفي ليجعل من جماعة ما طبقة اجتماعية بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ نستطيع القول أن الموقع الاقتصادي غير كاف بحد ذاته لتعريف الطبقة الاجتماعية. ويصبح من الضروري العودة الى اللحظات الاخرى في التحليل، أي الى المواقع ضمن العلاقات الايديولوجية والسياسية للتقسيم الاجتماعي للعمل. نستطيع القول، إذن، أن طبقة اجتماعية معينة تتحدد ضمن اطار تكوين اجتماعي معين استنادا الى موقعها في تقسيم العمل الاجتماعي، أي الذي يضم الحقول السياسية، الايديولوجية، اضافة الى الحقل الاقتصادي. وهذا الموقف ينسجم مع التحديد البنيوي للطبقات، أي الشكل الذي يؤثر فيه التحديد من قبل البنية (علاقات الانتاج، السيطرة/الخضوع السياسي والايديولوجي، على الممارسات الطبقية) على حد تعبير بولنتزاس [7].

فالطبقات الاجتماعية تتحدد جدلياً، إذن، بثلاث لحظات، كما اسلفت سابقا : المستوى الاقتصادي، المستوى السياسي، المستوى الايديولوجي، التي تشكل مصفوفة اسلوب الانتاج المسيطر في التكوين الاجتماعي الملموس، في علاقته ببناء فوقي حقوقي يقوم عليه ويستند إليه، وحيث يلعب المستوى المسيطر في هذه المصفوفة الدور الحاسم في تشكيل ملامح الطبقات في هذه التكوين دون نسيان حقيقة أن المستويات المختلفة للتكوين المذكور تتشابك في وحدة جدلية وتفعل فعلها في أن واحد [8].

إن الطبقات بالمعنى الذي نفهمه من خلال هذا التركيب للاطروحات السابقة، هي كينونات واقعية، فعلية، وليس مجموعات راكدة، أو بنى منطقية فقط. نسميها إذن بالطبقات الاجتماعية، ذلك لأن الفروقات الناشئة بينها تؤثر على مختلف جوانب الحياة. فالطبقات تطور عاداتها وتقاليدها، ووعيها الاجتماعي، وتصوغ (تخلق) نمطها المتميز للمعيشة، كما تقيم تنظيمها السياسي والاشكال الايديولوجية التي يتجلى (يبرز) فيها اختلاف المصالح وتطلعات أعضاء الطبقة.

الآن وبعد أن راكمنا معرفة مكثفة، بإمكاننا أن نسعى الى الاجابة عن سؤال جديد، وهو المرتبط أصلاً باشكاليتنا المطروحة. هذا السؤال مصاغ كما يلي : ما هي الفئة الاجتماعية، وما هي الفروقات بينها وبين الطبقة الاجتماعية ؟

يتعين علينا، في مسعى الاجابة على هذا السؤال، أن نثير العديد من القضايا في هذا المجال، يمكن تلخيصها في ضرورة تحديد :
أ‌.       مضمون الفئة الاجتماعية،
ب‌. حقل هذا المفهوم، أين ينشط، ماهي حدوده ؟
ج‌.   العلاقة التي ترتبط بها الفئة الاجتماعية تجاه الطبقة،
د‌.     المعيار (أو المعايير) المساعدة في تحديد الفئة الاجتماعية.

بداية، يمكن القول أن مفهوم " الفئة الاجتماعية " يستخدم، في السوسيولوجيا، بمعان مختلفة. وفي مسعانا للبحث عن المعنى العام الذي يختفي وراء هذا المفهوم يمكن القول بأن " الفئة " هي تلك الجماعة من الناس التي هي ليست بطبقة ولا بمجموعة عرقية، بل هي عبارة عن جماعة من الناس تمتاز بتماثل ظروف معيشة اعضائها. غير أن هذا التحديد عام وعرضي وينجم عنه عدة معانٍ. على الغالب، يظهر مصطلح الفئة بعدة معان من بينها ما يلي [9] :
أ‌.       يمكن أن يسمى بالفئة ذلك الجزء المحدد من طبقة، الذي يمكن تميزه على أساس معيار مستوى الدخول (برجوازية كبيرة، متوسطة، صغيرة، ارستقراطية عمالية..... الخ)، أو على أساس معيار حقل النشاط الاقتصادي (برجوازية صناعية، تجارية، عمال زراعيين، عمال صناعيين.... الخ)، أو على أساس المعيار الاقليمي أو العرقي (يجري الحديث أحيانا عن برجوازية اقليم معين أو عن " فئة " من البرجوازية اليهودية).
ب‌. يجري الحديث كذلك عن " الفئة " ويقصد بذلك توحّد (اندماج) " أجنحة " محددة تنتمي لطبقات اجتماعية مختلفة تمتاز بتماثل ظروف المعيشة.
ج‌.   واخيراً يمكن أن تسمي بـ " الفئة " تلك الجماعة من الناس التي تظهر كما لو أنها خارج التقسيمات الطبقية الاساسية وتمتاز بمنظومة محددة وواضحة لنمط المعيشة (الانتلجنسيا، " البروليتاريا الرثة ").

يجري تقديم هذه التعريفات باستخدام مصطلحات متنوعة. فعلى سبيل المثال يشار، في بعض الكتابات، الى انعدام نسق System مصطلحاتي فيما يتعلق بهذه التقسيمات، إذ يجري احيانا الحديث عن " أجنحة طبقية "، وأحيانا عن " أجزاء الطبقة "، أو عن " مجموعات طبقية "، أو " شرائح الطبقة " بل وحتى أحياناً عن " طبقات داخل الطبقة " [10].

هكذا إذن يتعين، على الصعيد النظري، الانشغال بالقضية المتعلقة بتنوع أنماط الظواهر التي تسمى بالفئات. ونظرا لإنعدام نسق منضبط، كما جرت الاشارة اليه اعلاه، يتعين بلورة مصطلح قد يساعد في ضبط مفهوم " الفئات الاجتماعية "، وهذا المصطلح هو مصطلح " التمايز الاجتماعي ". هناك بعض البحاثة ممن يرغب في تسمية التمايز الاجتماعي بالفئوية (نسبة الى فئة) وذلك بحسب واحد من المقاييس، أو بحسب أحد الفروق، وبهذه الطريقة يتم تقسيم الجماعات حسب التأهيل، المهارة، الدخول، وتسمى تلك الجماعات (المجموعات) بالفئات. وعلى هذا الاساس يتحدث بعض الباحثين [11] عن ظهور فئات (جماعات)من الناس ذات مهارات متماثلة، أو " فئات دخلية " داخل الطبقة. غير أنه يتعين الاشارة الى أن هذا الطرح غير دقيق من الناحية المنهجية، فمثل هذا التصور لا يفترض، أو على وجه الدقة، لا يجعل من خصائص الوضع الاجتماعي موضوعا لدراسات مستقلة.

هناك قضية أخرى تتعلق بالبحث عن أدوات " تقنيات " أدق لبحث هذا النوع من الفروقات. وإبتداءً يتعين القول أنها ليست قضية سهلة وبسيطة، غير أن التأمل النظري يجب أن يؤدي الى تحقيق مطلب انتاج أدوات كهذه.

إن ظاهرة الانسجام الداخلي والتمييز عن الظواهر الاخرى لا تستنفد ثراء ظواهر أخرى، يجب رؤيتها، ولهذا ومن أجل فهم أشمل وأعمق نقترح العودة الى طرح أخر. مثل هذا الطرح سيعطي دورا أعم للجماعة الاجتماعية- المهنية بإعتبارها مجموعات متقاربة مهنيا، وتمثل تجمعا واعيا للمصالح، نوعا محدداً من المواقف الاجتماعو/سياسية. واذا قبلنا، إبتداءً، بطرح كهذا، وفهم كهذا للفئة فإننا سنطرح التساؤلات التالية :

·       أي درجة سيتعين على " الفئات " المفهومة بهذه الصورة أن تتمتع بخاصية الانسجام الداخلي والتمايز عن الفئات الاخرى ؟
·       هل يتعين على الفئات أن توجد في علاقة خطية بالنسبة لبعضها البعض ؟
·       هل يتوجب على هذه الفئات أن توضع، في مختلف مستويات البنية الاجتماعية، بشكل متماثل؟

ويمكن تعميق التحليل بصدد التمييز بين مفهوم " الفئة الاجتماعية " و " الطبقة الاجتماعية "على أساس موضوعية المعايير، سواء تعلق الامر بالطبقة أو الفئة، ونستطيع أن نقول إن أحد الفروقات يعتمد على درجة الارتباط بالعملية الانتاجية. ونظرا لأن العلاقات الناشئة بين الطبقات الاجتماعية تنبثق في حقل الانتاج، وإنطلاقا من حقيقة أن الطريقة الاساسية لحصولها على وسائل المعيشة الضرورية تتمثل بالوجود الدائم في وضع مالك شروط العمل أو العامل الاجير (في الرأسمالية على سبيل المثال) المنفصل عن شروط عمله، فإن العلاقات هذه تمتاز بالديمومة والثبات، لذا نطلق عليها العلاقات الطبقية، في حين تظهر الى جانب هذه الطبقات بعض المجموعات من الناس، وأثناء مسعاها للحصول على الشروط الاساسية لمعيشتها يمكنها أن تدخل في علاقات قصيرة الاجل وغير منتظمة. إن عدم الانتظام وقصر المدى هذا يمكّننا من أن نبلور مفهوما يعبر عنه وهو مفهوم " العلاقات شبه الطبقية "، أي أن إرتباط تلك الجماعات التي نسميها بـ " الفئات الاجتماعية ". يرتب مفهوم " العلاقات شبه الطبقية " حقيقة هامة يتعين الاشارة اليها. إنطلاقا من فكرة سابقة طرحتها وقوامها أن مفهوم " الطبقة الاجتماعية " لا معنى له دون ربطه بمفهوم " نمط الانتاج "، فإنه يمكننا القول أن الفئات الاجتماعية لا ترتبط بالضرورة بنمط إنتاج محدد إنما تتنوع علاقاتها وترتبط بأنماط انتاجية مختلفة. إن موقعها ضمن التكوين الاجتماعي لا ينتج عن علاقات الملكية لوسائل الانتاج وشروط العمل، بل ينتج عن خصائص مميزة لحقول أخرى في التكوين الاجتماعي.

ونستطيع أن نفرز تلك المجموعات الاجتماعية التي تنتمي اليها الفئات الاجتماعية، بإعتبارها تلك التي لا تدخل ضمن مجموعات المنتجين المباشرين، أي أن أعضائها ليسوا بمالكين لوسائل الانتاج ولا بشروط العمل، أو حتى لمالكي المنتج المباشر (كما في النظام العبودي)، ولكنهم رغم ذلك " يستحوذون " – عبر قنوات مختلفة – على منتوج العمل الاضافي للمنتج المباشر. لعل هذه الحقيقة تطرح تساؤلا مهما هو : ما الذي يستدعي ذلك ؟ نستطيع القول أن هناك " ضرورات " متنوعة ذات طبيعة اقتصادية، إجتماعية، بل وحتى سياسية تعود الى أن مالكي وسائل الانتاج وشروط العمل " مضطرون "، لأسباب متنوعة، للتنازل عن جزء منه الى مجموعات اجتماعية أخرى، تؤدي " وظائف محددة " في عملية إعادة إنتاج التكوين الاجتماعي دون " تعقيدات تذكر ". وارتباطاً بذلك يمكن القول أن إعادة إنتاج الفئات الاجتماعية مرتبطة شديد الارتباط بالعلاقة بالطبقات الاساس، ولكن ليس حصراً.

سنستخدم هذه المعرفة التي راكمناها، بصدد " الفئة الاجتماعية "، في محاولة لإنتاج معرفة نظرية عن كل من " البرجوازية البيروقراطية " و " البرجوازية الطفيلية ".

لنبدأ، إذن، بالبرجوازية البيروقراطية.

لقد جرت محاولات عديدة [12] لصياغة المفهوم النظري للبرجوازية البيروقراطية في العديد من البلدان. وقد سعت تلك المحاولات لبناء عناصر للتحليل تساهم في الكشف عن " العوامل الموضوعية " التي أدت الى " ميلاد " هذه الفئة الاجتماعية ونموها واتساعها المذهل وسيطرتها، خلال فترات قصيرة، على كامل البناء الاجتماعي في بلدان عدة. ولهذا لن ننشغل في عمل تفصيلي، بل سنحاول تقديم بعض الملاحظات المكثفة التي بامكانها أن تساعد في فهم هذه الفئة والاشكالات المرتبطة بها.

في البلدان التي وصلت فيها البرجوازية الى السلطة يعد " القطاع الحكومي " بطبعه رأسمالية دولة، نوعا من أنواع الملكية الرأسمالية الجماعية، ذلك لأن البرجوازية استخدمت وتستخدم هذا القطاع من أجل خلق القاعدة الاقتصادية لتركيز سلطتها وتطورها كطبقة مستقلة. ومع نمو " المؤسسات العامة " تتضخم أجهزة الدولة وتتعدد الاجهزة الإدارية . وقد اصطلح على هذه المجموعات " الحاكمة " مصطلح البيروقراطية التي تعتبر ظاهرة متميزة في معظم البلدان " النامية ". وتستغل الدواوينية البيروقراطية مركزها في الخدمة والوظيفة لا لإبتزاز المداخيل القانونية بصورة رواتب عالية فحسب، بل وأيضا لإبتزاز المداخيل غير القانونية (الرشوات، العمولات، ..... الخ). ويصبح جهاز الدولة وسيلة هامة لتكوين البرجوازية البيروقراطية، والمقصود هنا تكوين البرجوازية من بيئة الدواوينية المفسدة.

وبمشاركة الدولة في النشاط الانتاجي، واتساع القطاع الحكومي، تنمو القاعدة الاجتماعية لهذه الفئة، بحيث تضم جماعات مهنية متباينة ، كالبيروقراطية والتكنوقراط من ضباط المؤسسة العسكرية وموظفي جهاز الدولة وغيرهم، أولئك الذين يستغلون الامكانيات المتوفرة، في " تطوير " المجالات غير الانتاجية والخدمات ما يؤدي الى تضخم الجهاز الاداري الذي تقبع في قمته اعداد مضطردة النمو من البرجوازية التي تلعب السلطة السياسية دور رأس المال بالنسبة لها بوصفها (أي السلطة السياسية) وسيلة استقطاع جزء كبير من الفائض الاقتصادي، بل وطريقا الى تحقيق تراكم رأسمالي يتيح لهذه الفئة أن تشارك القطاع الخاص بحيث ينشأ تداخل بين مصالحه وبين البرجوازية البيروقراطية، سواء عن طريق مشاريع مشتركة، أو خاصة، أو بواسطة الصفقات والاتفاقات غير المعلنة وغير المشروعة [13]. وتكون النتيجة الطبيعية هي اندماج هذه الفئة، عبر جهازها البيروقراطي، مع الرأسمال الخاص، ويحدث " عقد قران " طبقي من نوع جديد، وتتم عملية " طبيعية " للتركز الرأسمالي.

في البلدان التي توجد فيها علاقات رأسمالية متطورة نسبيا تستعمل عادة الدخول العالية لكبار موظفي الدولة وكبار العسكريين والفئات العليا من الاختصاصيين الفنيين، أي تلك الفئات التي تحتل مركز القيادة واتخاذ القرارات في الدولة ومواقع الانتاج وتحصل على دخولها من خلال الدورة الثانية لتوزيع الدخل القومي، تستعمل دخولها عادة على شكل توظيفات رأسمالية مباشرة في قطاع التداول وفي فروع مختلفة من الانتاج المادي. وبفضل توفر الشروط الاجتماعو/اقتصادية، يتحول رأس المال البيروقراطي الى رأسمال تجاري وصناعي [14]. وهكذا من ثم توجد امكانية موضوعية، في ظروف تاريخية محددة، لنشأة رأسمالية بيروقراطية تتحد مع رأس المال الطفيلي الكبير وتحدد مصائر تطور البلد المعين.
إن استكمال مظاهر السلطة السياسية في " البلدان النامية " لا يتم عادة إلا من خلال السيطرة على الجهاز البيروقراطي وضمان ولائه وانقياده لمتطلبات النظام السائد في البلاد، وبالتالي فإن البيروقراطيين يحتلون عموما مواقع استراتيجية تؤهلهم للاستئثار بقدر متعاظم من السلطات والنفوذ السياسي.

ومن دون الدخول في التفاصيل، يمكن القول إن البرجوازية البيروقراطية في الكثير من " البلدان النامية " مارست وتمارس هيمنة واضحة على بقية " الشرائح " البرجوازية بحيث يمكن عدها التشكل الطبقي الاكثر وضوحا في تلك البلدان، وان شهدت السنوات الاخيرة تغيرات عديدة تحتاج الى دراسات تفصيلية وملموسة لتبيان طبيعتها. وكما تشير التجربة التاريخية فإن البرجوازية البيروقراطية حاولت وتحاول ممارسة السلطة والحكم على أنها قوة فوق الطبقات وبعيدة عن الصراعات الناشئة بين البنية الاجتماعية، وتحكمها لصالح المجتمع، بينما هي في واقع الحال تحكم لمصلحة الطبقة المسيطرة (أو الائتلاف المهيمن)، للحفاظ على وتوطيد علاقات الانتاج الرأسمالية. غير أن تحررها من الارتباط العضوي بأي من " الاجنحة " المتعددة للبرجوازية، يتيح لها استخدام " أكثر دهاءً " ويمكنها من القدرة على المناورة على صعيد داخلي وحتى على صعيد خارجي. إن هذه الميزة للبرجوازية البيروقراطية وقدرتها على التصرف بمرونة كبيرة دفعت بعض الباحثين [15] الى اعتبارها " طبقة مستقلة ".

استنادا الى الملاحظات التي تبلورت، حتى الان، حول مفاهيم " الطبقة " أو " الفئة " نستطيع أن نستنتج بأن البرجوازية البيروقراطية لا تشكل طبقة مستقلة بالمعنى العلمي. فمن المعلوم أن الطبقة لا تتحدد فقط بالمشاركة في انتاج وتوزيع الدخل القومي، بل تتحدد كذلك بدور مستقل في البنية الاجتماعية، وبجذور راسخة في اسس المجتمع الاقتصادية، كما أن كل طبقة تبلور اشكالها الخاصة في الملكية. في حين نلاحظ أن البيروقراطية لا تملك أيا من هذه الملامح الاجتماعية وليس لها موقع مستقل في صيرورة الانتاج والتوزيع، ولا جذور مستقلة في الملكية. فوحدتها لا تستند الى دورها في الانتاج وعلاقتها بوسائل الانتاج، وإنما الى وظيفتها الادارية التي تستمد امتيازاتها منها. أما وظائفها فعائدة الى جوهرها، الى التقنية السياسية للسيطرة الطبقية. إن حضور البيروقراطية، مع اعتبار كل الاختلافات في اشكالها، ومع اعتبار وزنها النوعي الخاص، يطبع كل نظام طبقي، وليس قوتها، سوى انعكاس لواقع طبقي محدد، فالبيروقراطية التي ترتبط بشكل وثيق للغاية بالطبقة المسيطرة اقتصاديا، تتغذى بجذور هذه الطبقة الاجتماعية، وتبقى ببقائها، وتسقط بسقوطها. إنها تأمر وتحكم وتدير وتوزع، لكنها لا تخلق (بعكس كل طبقة مسيطرة) أساساً اجتماعيا لسيطرتها (بشكل شروط خاصة للملكية).

إن ما يميز " البرجوازية البيروقراطية " هو علاقاتها النوعية بالسلطة كمؤسسة وانتمائها الى جهاز الدولة. إنها كما يقول (بولنتزاس) نتاج لعلاقة الدولة بالبنية الاقتصادية من ناحية وبالطبقات واقسامها المختلفة من ناحية اخرى. إن ما يسمى بالسلطة البيروقراطية ليس في الحقيقة الا ممارسة الدولة لوظائفها، ويتطابق اداء البيروقراطية، في التحليل النهائي، مع المصلحة السياسية للطبقة المهيمنة، وذلك عبر العلاقة المعقدة بين الدولة والسلطة السياسية للطبقة المهيمنة وليس من خلال الانتماءات الطبقية للبيروقراطية. وهذا يتضح في الحالة التي تكون الطبقة التي بيدها مقاليد السلطة غير الطبقة المهيمنة، عندئذ تمارس البيروقراطية السلطة لحساب الطبقة المهيمنة. ومن هنا يتضح خطأ المقاربات التي تؤسس علاقة البيروقراطية بالسلطة السياسية للطبقة المهيمنة على وحدة انتماءاتها الطبقية فنتجت عن علاقات القرابة والمصاهرة التي تربط عناصر البيروقراطية العليا بأعضاء الطبقة المهيمنة. إن هذه العلاقات يمكن ادماجها في التحليل باعتبارها علاقات ناجمة عن مصالح مادية وتنشأ على هذا الاساس وليس على أساس علاقات " مصاهرة أو قرابة " فقط [16].

إن البرجوازية البيروقراطية تتزايد وتتجدد بفضل تراتب اداري، وتأتي امتيازاتها من استغلال " القطاع الحكومي " لا من علاقات انتاج محددة. إن الرأسمال البيروقراطي لا يستمد موارده الرأسمالية من المؤسسات الصناعية والتجارية مباشرة وإنما يستحوذ على فائض القيمة الاجتماعي (العائد للمجتمع ككل). إن هذا الواقع يفسر كيف أن مؤسسات الرأسمالية البيروقراطية تسجل خسائر كبيرة في كثير من الاحيان ولكن البرجوازية البيروقراطية، برغم ذلك تزداد ثراءً !.

ومن جهة اخرى لا تتوقف الوظيفة الخاصة للبيروقراطية كفئة اجتماعية على طبيعة انتماءاتها الطبقية، أو على النشاط السياسي للطبقات التي خرجت من صفوفها، وإنما تتحدد هذه الوظيفة بالدور الملموس الذي يلعبه جهاز الدولة داخل التكوين الاجتماعي ككل وعلاقاته المعقدة بطبقاته. وهذا بالتحديد هو ما يفسر لنا وحدة البيروقراطية وتماسكها بالرغم من اختلاف وتباين منابعها الطبقية، وكذلك لا يمكننا ارجاع هذه الوحدة الى وحدة الطبقة التي بيدها سلطة الدولة.

إن المعيار الذي يحدد انتماء الفرد الى هذه الفئة ليس حجم دخله ولا موقعه أو منصبه، وإنما في الاساس، مدى نفوذه في اتخاذ القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أي دوره في عملية اعادة الانتاج الاجتماعي. إن البرجوازية البيروقراطية لا تمتلك وسائل الانتاج، إلا أنها بحكم مواقعها تمتلك امكانية التحكم في الانتاج ذاته، كما أنها تسيطر على وسائل الانتاج ليس بالملكية وإنما بالحيازة. وفي ظروف الافتقار الى أبسط قواعد الرقابة وضعف أو إنعدام وجود مؤسسات ديمقراطية تستطيع البرجوازية البيروقراطية أن تمتلك حرية التصرف المطلق بالفائض الاقتصادي العائد للمجتمع. ومن جانب أخر فإن علاقات القرابة والمصاهرة المتشابكة مع " قادة السلطة " تكفل لهم الحماية والاستقرار، وتؤمن لهم حرية التحرك " بدون رقيب أو حسيب في اعمالهم ".

ومن جهة اخرى يمكن القول إن دخول البرجوازية البيروقراطية، في شروط معينة من تطورها التاريخي، في تناقض مع الطبقات المسيطرة في البلدان الراسمالية المتقدمة، لا ينفي وجود علاقة التبعية التي تربطها بها، ولا يدل هذا على أن قطع هذه العلاقة هو منطق صيرورتها الطبقية، حتى وان توفرت عندها – افتراضاً – الارادة الطبقية للقيام بذلك، لأن تحقيق ذلك يستلزم بالضرورة تحويلاً جذريا في بنية علاقات الانتاج وبالتالي قلباً جذريا لعلاقات الهيمنة/التبعية، وهذا غير ممكن لهذه الفئة [17].














.





Post a Comment

Previous Post Next Post