ــ نشأة التفسير ومدارسه:
ــ انطلاقًا من قول الله -جل في علاه-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، كانت نشأة التفسير على يد مُعلِّم البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي لا ينطق عن الهوى.
وقد انقسم التفسير المرويّ عنه -صلى الله عليه وسلم- إلى قسميْن:
- الأوّل: عبارة عن تفسير لبعض المفردات، أو الألفاظ المجملة: وهذا قليل، لكون القرآن نزل بلسان عربيّ مُبين، في قوم سليقتهم العربيّة؛ فلم يكن ثَمّ حاجة ماسة للإغراق في مثل هذا النوع من التفسير عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
- الثاني: التفسير الإجمالي والموضوعي لجميع مقاصد القرآن: وهذا في الحقيقة قد بيّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أيّما بيان.
فالمتأمِّل لكتاب الله يجِد أنه تكلّم عن العقيدة في الله والملائكة والأنبياء والكُتب المنزلة واليوم الآخر والقدَر، وهذه المباحث قد أخذت جانبًا عظيمًا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- القوليّة والفعليّة، مفسِّرة لمضمونها، وشارحة لمقصودها. كما تحدّثت آيات أخرى عن العبادات، من صلاة وزكاة وصوم وحجّ ونذر وغير ذلك... وهذه جلّ الأحاديث النبويّة تفسّرها، وتوضِّح مجمَلها.
وتحدّثت آيات القرآن عن أحكام شرعيّة في المعاملات وغيرها، من نكاح وطلاق، وبيع وشراء، وطعام وشراب، وقَصاص وحدود، وميراث، ونحو ذلك... وهذه أيضًا أخذت جانبًا كبيرًا من السُّنّة النبوية التي لم تدعْها إلاّ واضحة جليّة.
ولم يبْق إلاّ آيات تتعلّق بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه وعلاقاته بالمُشركين والكتابيِّين، وهذه لا مفسِّر لها إلاّ ما أُثر عنه -صلى الله عليه وسلم- من تلك الأحوال. وآيات تتعلّق بقصص الأنبياء السابقين، وهذه تلاوتها تغني عن تفسيرها، وبعض ما احتيج فيه إلى تفسير بيّنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كان فضلًا ترَكه -صلى الله عليه وسلم-، ورخّص في الحديث عن بني إسرائيل.
وبناء على ما تقدّم، فجُلّ القرآن الكريم قد فسّره النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومَن خالف ذلك فقد أُتي مِن قِبل نظرته للنوع الأوّل مِن التفسير المرويّ عنه -صلى الله عليه وسلم- فقط، ولم يتنبّه للنوع الثاني -والله أعلم-.
وقد قال ابن تيمية -رحمه الله-: "يجب أن يُعلَم: أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه. وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أخذ التفسيرَ أصحابُه الكرام".
قال أبو عبد الله الحاكم: "إنّ تفسير الصّحابيّ الذي شهد الوحي والتنزيل، حديث مُسند، يعني به: ما كان مِن سبب نزول ونحوه...".
ــ وقد اعتمد الصحابة في تفاسيرهم على أربعة مصادر: القرآن الكريم، النبي -صلى الله عليه وسلم-، الاجتهاد بما لديهم مِن لغة عربية وفهم ثاقب، أهل الكتاب؛ ولكلّ مجالُه.
وعن طريق الصحابة -رضي الله عنهم-، انتشر التفسير، وظهرت مدرسة التفسير بالمأثور متمثِّلَة أظهر ما تكون في حَبر الأمّة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، ثم غيْره من مُفسِّري الصّحابة، مثل: عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وعلي بن أبي طالب، وبقيّة الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم...
وتطوّرت مدرسة التفسير في عصر التابعين، فتولّد منها مدارس حسب انتشار الصحابة في البلدان.
ــ فأشهر مدارس التفسير بالمأثور:
- مدرسة التفسير بمكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وطاوس، وسعيد بن جبير.
- ثم مدرسة التفسير بالمدينة، وقد أخذ أصحابها عن أبيّ بن كعب، واشتهر منهم: أبو العالية، ومحمد بن كعب القرظي. وقد أخذ الأوّل عن أبيّ مباشرة، والثاني بواسطة. واشتهر مِن مفسِّري المدينة أيضًا: زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر بن الخطاب. ومدرسة التفسير بالعراق، وقد أخذ أصحابها عن ابن مسعود، واشتهر منهم: علقمة بن قيس، ومسروق، ومرّة الهمداني، والشعبي؛ وقد أخذ الأخير عنه بواسطة. واشتهر منهم أيضًا: الحسن البصري، وقتادة.
- ثم ظهرت بعد ذلك مدرسة التفسير بالرأي، والمراد به: تفسير القرآن بالاجتهاد، بعد اكتمال المفسّر للأدوات التي يحتاج إليها في ذلك. واختلف في جوازه: فطائفة تحرِّمه، وطائفة تُجيزه؛ ولكلٍّ أدلّته، وإن كانت أدلّة المانعين أكثر وأوضح. وقد جزم الحافظ ابن كثير -تبعًا لشيخ الإسلام ابن تيمية-، بتحريم تفسير القرآن بمجرّد الرأي.. ولاشك في جوازه عند الحاجة إليه.
وبيّن ابن عطية الأندلسي الرأي الممنوع الذي جاء الوعيد لصاحبه في الحديث، بأن يتبوّأ مقعده من النار، بقوله: "ومعنى هذا: أن يُسأل الرجل عن معنى في كتاب الله -عز وجل-، فيتسوّر عليه برأيه، دون نظر فيما قاله العلماء، واقتضته قوانين العلْم، كالنّحو والأصول. وليس يدخل في هذا الحديث: أن يفسّر اللّغويون لغتَه، والنحويون نحوَه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبنيّ على قوانين علْم ونظر؛ فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلًا بمجرّد رأيه".
ــ وقد انقسمت مدرسة التفسير بالرأي إلى مدرستيْن، تمثّلان وجهتَي النظر في التحليل والتحريم:
- الأولى: مدرسة التفسير بالرأي المحمود، والمراد به: التفسير الموافق لكلام العرب، مع موافقة الكتاب والسُّنّة، ومراعاة الشروط التي يجب توافرها للمفسّر؛ ومن ذلك:
علوم اللغة، والنحو، والصرف، والاشتقاق، والبلاغة، وعلْم القراءات، وعلّم التوحيد والعقيدة، ويسمّيه البعض: علْم أصول الدِّين، وعلم أصول الفقه، وعلْم أسباب النّزول، وعلْم القصص، وعلْم الناسخ والمنسوخ، وعلْم الأحاديث المبيِّنة للمُجمل والمُبهم، الموهبة.
ولا بدّ أيضًا أن يكون ملمًا بعلوم أخرى، بالإضافة إلى شيء أساسي، وهو: إحاطته بالمأثور في التفسير. ومن هذه العلوم الأخرى:
علْم الحديث ومصطلحه، لئلا يختلط عليه الصحيح بالسقيم مِن الأدلّة التي سيبني عليها كلامه في تفسير كتاب الله تعالى.
علْم المغازي والسيّر، لارتباطها الوثيق بالتفسير.
علْم التاريخ وأخبار الأمم السالفة، لتضمن القرآن الحديث عن كثير من ذلك.
علْم الديانات، لا سيما اليهودية والنصرانية، لإسهاب القرآن في ذكْرهم والردّ عليهم.
علْم التقوى والخشية والورع، وهي -والله أعلم- أصْل الموهبة.
علم الآداب والأخلاق وتهذيب النفوس، للاهتمام البالغ في كتاب الله سبحانه بهذا الجانب.
وقد ذكر طرفًا من هذه العلوم: الكافييجي، والزركشي، والسيوطي، وغيرهم... وفيها تفصيل أكثر من ذلك.
وفي الحقيقة، مِن أصعب ما يكون اجتماع هذه الأمور في شخص واحد، بل تكاد تكون مُنعدمة. وهو السبب الذي أدى إلى وقوع أغلب المفسِّرين بالرأي في مزالق، إن لم يكن كلّهم؛ وسوف يأتي الحديث عليها بعد قليل -إن شاء الله تعالى-.
وقد انتشرت مدرسة الرأي المحمود، وكثرت التفاسير المبنيّة عليها، من تفاسير لغوية، وتفاسير فقهية، ونحوها...
- الثانية: مدرسة التفسير بالرأي المذموم، وقد توّلى كبرها طوائف متعدّدة مِن المبتدعة والمتزندقة، مثل: الحُلولية، والشِّيعة، والخوارج، والمعتزلة، ونحوهم مِن الفِرق الضالة التي حرّفت كتاب الله، وخرجت به عن مقاييس اللغة، فضلًا عن تفسير السلف الصالح، بل عن العقل جملة في كثير من الأحيان. ويتّضح هذا بالنظر في تفاسير الشِّيعة، والخوارج، وغيرهم...

Post a Comment

Previous Post Next Post